أكدت تركيا بمناسبة مرور 20 عامًا على عضويتها مراقبًا في الاتحاد الإفريقي (12 إبريل الجاري) على التزامها الدائم بتقوية العلاقات مع إفريقيا، وتعميق التعاون على أسس الاحترام المتبادل والشراكة المتساوية ومبادئ الفوز للجميع. وكانت تركيا قد حصلت على وضع مراقب في الاتحاد في العام 2005، ثم أصبحت شريكًا استراتيجيًا للمنظمة القارية في العام 2008، مما عكس تأثيرها الدبلوماسي والاقتصادي المتعاظم، حسب بيان الخارجية التركية.  وفيما تستعد تركيا بقوة لقمة شراكة تركيا إفريقيا الرابعة (طرابلس- ليبيا 2026)، التي تعد منصة لدعم التعاون بين الجانبين في قطاعات، تشمل التجارة والأمن والتعليم والبنية الأساسية والصحة، فإن حضورها في عدد كبير من قضايا القارة وأزماتها تصاحبه تساؤلات عن جدية المقاربة التركية في البناء على التعاون القاري والثنائي، وآفاق صعود الدور التركي في القارة في ظل الاضطراب العالمي الراهن، ومدى مقبولية هذا الدور لدى الاتحاد الإفريقي ودوله، إضافة إلى تساؤل حول طبيعة ارتباطات الدور التركي في القارة بالتنافس الدولي على مقدراتها ودينامياته.

تركيا مراقبًا بالاتحاد الإفريقي: حدود التأثير

أولت تركيا اهتمامًا كبيرًا بآليات العمل الجماعي الإفريقي بعد تطبيقها “خطة العمل لسياسة الانفتاح على إفريقيا” (1998)، حيث شاركت في قمم الاتحاد الإفريقي بعد العام 2002 كضيف شرف، ثم نالت وضع المراقب في العام 2005، حيث عملت سفارة تركيا في أديس أبابا على متابعة كل ما يخص عمل الاتحاد الإفريقي، ويرتبط بالسياسات التركية في إفريقيا. وبنت أنقرة بقوة على هذا التوجه منذ بداياته، إذ وجهت دعوة لرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي وقتها ألفا عمر كوناري لزيارة تركيا (21-25 نوفمبر 2005) التي مثلت بدورها أول زيارة لرئيس مفوضية المنظمة الإفريقية لأنقرة، تلتها زيارة “تاريخية” للرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمشاركة في قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا (29-30 يناير 2007). وتزامنًا مع إعلان الاتحاد الإفريقي تركيا “شريكًا استراتيجيًا” للقارة في العام 2008، بادرت تركيا باستضافة أول قمة تعاون تركي- إفريقي (إسطنبول، أغسطس 2008)، ونتج عن هذه القمة ما عرف بإعلان إسطنبول حول الشراكة التركية- الإفريقية: التضامن والشراكة من أجل مستقبل مشترك”.      

وحرصت تركيا على تعميق هذا التعاون المؤسساتي على مدار العقدين السابقين، كما تمثل في تطبيق أحدث خطط العمل المشترك (2022-2024)، وتبني مؤتمر المراجعة الوزاري التركي الإفريقي الثالث (جيبوتي 2024) لخطة العمل المشترك الموسعة (2022- 2026)، باعتبارها خريطة طريق لتعميق التعاون بين تركيا والاتحاد الإفريقي “على نحو يتسق مع أولويات أجندة الاتحاد الإفريقي 2063، رغم ما يعتري هذه التصورات من غياب “صياغة إفريقية” للخطة أو تعاون في المراحل اللاحقة لتطبيقها على نحو يلائم أولويات الدول الإفريقية الفعلية (في ضوء التعميم المفرط وغير الواقعة الذي تتضمنه أجندة الاتحاد الإفريقية 2063).

ويبدو من عمق الشراكة التي وطدتها تركيا مع الاتحاد الإفريقي، أن الأولى باتت رقمًا مهمًا في العديد من القضايا الإفريقية، لا سيما في القرن الإفريقي، دون إغفال وجود تنسيق تركي واضح مع دولة مقر الاتحاد الإفريقي (إثيوبيا) اتضحت معالمه في نجاح تركيا في وساطتها بين إثيوبيا والصومال و”تبريد” المسار التصادمي المتسارع بين البلدين في توقيت حاسم، فيما عرف بإعلان أنقرة (ديسمبر 2024)، وهو المثال الذي يكشف مدى عمق التأثير التركي.

ويمكن ملاحظة أن تمتع تركيا بوضع مراقب في الاتحاد الإفريقي، عزز قدرتها على مقاربة مختلف القضايا الإفريقية بدون تحفظات تذكر، وبدعم من أطراف إقليمية إفريقية، التقت مصالحها بشكل كامل مع سياستها الإفريقية مثل إثيوبيا وجيبوتي، وكذلك مع عدد من القوى الإقليمية من خارج القارة في إطار تقاسم النفوذ والمصالح. ويتضح هذا المثال في عرض تركيا وساطتها في الأزمة الطاحنة في شرقي الكونغو الديمقراطية بين جمهورية الكونغو ورواندا بالأساس (يناير 2025)، وهو العرض الذي رفضته كينشاسا بحجة تعويلها على “حل إفريقي” للأزمة، (فيما قبلت بالفعل وساطة قطرية). وكشف هذا الموقف، على خلفية دعم كيجالي المطلق للوساطة التركية، عن طبيعة تحيزات تركيا في إفريقيا، وارتباط دورها بحسابات إقليمية ودولية، لا تقر بالضرورة مبدأ احترام سيادة الدول الإفريقية واستقلالها.

تركيا ومرحلة “تقاسم النفوذ” في إفريقيا: حالة التنسيق مع الإمارات

تستفيد تركيا بشكل واضح من حالة السيولة الراهنة في العلاقات الدولية وتداعياتها في إفريقيا؛ فأنقرة لا توجه سياسات عدائية تجاه قوى دولية كبرى، مثل الولايات المتحدة والصين، أو المتوسطة مثل، روسيا والهند. ورغم أن المنافس الرئيس لتركيا في إفريقيا يتمثل في دولة الإمارات العربية (سواء من جهة مناطق النفوذ أو حجم القوة النسبي لكل منهما)، فإن تركيا تعمد حاليًا إلى تنسيق العمل مع الإمارات في القارة، دون أي تنسيق يذكر مع الدول الإفريقية ذات الصلة، من أجل تفادي تضارب المصالح بينهما قدر الإمكان. ورغم انتهاج تركيا سياسات معلنة بحماية سيادة الدولة الإفريقية ووحدة أراضيها، فإنها نحت في الشهور الماضية إلى سياسة واضحة للغاية بتنسيق العمل مع الإمارات، وقوى إقليمية أخرى، ربما تنتهج سياسات مغايرة للسياسة التركية المعلنة، لا سيما في ملفات مثل، ليبيا والصومال والسودان وغيرها من مجالات اهتمام السياسة التركية الإفريقية لأسباب مختلفة.

ويبرز في سياق التقارب الراهن، أو التفاهمات التركية الإماراتية المتوقع تعمقها، ما شهدته العلاقات الثنائية بين أبوظبي وأنقرة من دفعة جديدة في الأسبوع الأول من إبريل الجاري؛ فقد انعقدت بين البلدين في أبوظبي الجولة الثانية من مشاوراتهما الثنائية، والتي ركزت على التطورات في إفريقيا “واستكشاف مجالات التعاون المحتملة في الاقتصاد والاستثمارات في أرجاء القارة”. مع ملاحظة أن هذا التعاون يأتي إنفاذًا لمخرجات زيارة رجب طيب أردوغان للإمارات في فبراير 2022، وفي مقدمتها عقد مشاورات منتظمة بين الجانبين بدأت رسميًا في 10 أكتوبر 2023 في أنقرة. ويكشف هذا التقارب، بشكل مباشر، أن جهود تركيا للاستيلاء على حصة لا بأس بها من موارد القارة الإفريقية الطبيعية، (لا سيما في النيجر والصومال حاليًا) باتت بحاجة على تنسيق مع الإمارات؛ وأن الخطوة التالية ستكون تعزيز تركيا تدخلاتها الأمنية في مناطق الأزمات الإفريقية الغنية بالموارد على النسق الإماراتي، مع ملاحظة امتلاك تركيا قدرة بشرية وعسكرية تفوق قدرة الإمارات في هذا المجال بمراحل.

كما يتوقع أن يكون التنسيق التركي الإماراتي، وهما دولتان تتمتعان بوضع مراقب دائم في الاتحاد الإفريقي، معززًا لتوظيف ديناميات العمل الجماعي الإفريقي في خدمة هذا التنسيق، وربما تمرير الترتيبات الأمنية لهما على نحو منفصل أو به قدر من التقاطع؛ بين أنشطة الإمارات الأمنية في القارة عبر أذرع محلية، (كما في السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية والصومال وغيرها)، ونشاط مجموعة “سادات” SADAT التركية النشطة في القارة منذ العام 2013، حسب تقديرات غربية، وتدخلت بداية في الحرب الأهلية في ليبيا، بعد أن دربت نحو خمسة آلاف مرتزق سوري، حسب تقارير لوزارة الدفاع الأمريكية. مع ملاحظة نمو نشاط الشركة التركية في إقليم الساحل، (لا سيما في بوركينا فاسو والنيجر)، وأن المرونة السياسية التي تبديها تركيا في إفريقيا تمكنها من لعب أدوار خشنة دون معارضة تذكر مقارنة بالدور الروسي على سبيل المثال. وترقب تصاعد ترتيب تركيا في قائمة أهم موردي السلاح للدول الإفريقية (جنوب الصحراء) في العالم من المرتبة الرابعة الحالية إلى تجاوز محتمل لروسيا أو الولايات المتحدة، فيما سيكون من الصعب تجاوزها الصين في المستقبل القريب.  

مستقبل دور تركيا في أفريقيا: الطريق إلى 2026

تملك تركيا نفوذًا سياسيًا وأمنيًا ملحوظًا في إفريقيا، ولا يتسق حتى اللحظة مع حجم التجارة بين الجانبين، رغم نموها السريع لنحو سبعة أضعاف من العام 2003، (حيث كانت تقف عند 1.35 بليون دولار) إلى العام 2023 (حيث وصلت إلى 12.4 بليون دولار). وسعت أنقرة في العامين 2024-2025 إلى رفع مستويات التبادل التجاري مع دول القارة عبر توقيع اتفاقات للتجارة الحرة مع دول مثل، تونس والمغرب وتونس وموريشيوس (سبتمبر 2024). وتعول تركيا، التي لا تنتج سوى 25% فقط من احتياجاتها من الطاقة بتقديرات 2022، على استنزاف منهجي موسع لموارد الطاقة الإفريقية بأقل تكاليف ممكنة، إما لاستغلالها في صناعة الطاقة المحلية أو تمريرها لشركاء تركيا الاقتصاديين.

وقد كشفت الخارجية التركية خلال القمة الإفريقية الأخيرة في أديس أبابا (فبراير 2025)، أن القمة التركية الإفريقية المقبلة ستنعقد في العاصمة الليبية طرابلس في العام 2026، ويتضح من مداولات الأجندة الأولية لهذه القمة عزم تركيا على تعزيز نفوذها في إفريقيا عبر ما يلي:

  • إقامة منصة جديدة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية التركية وتوظيف الجغرافيا السياسية للقارة الإفريقية لخدمة هذه الأهداف على المدى البعيد.
  • تأمين النفوذ التركي في الأسواق الإفريقية استباقًا للتدشين الفعلي لمنطقة التجارة الحرة الإفريقية.
  • تعزيز تطور القطاعات الاقتصادية الإسلامية لتركيا (مثل الصناعات القائمة على مبادئ الشريعة الإسلامية واهمها التمويل والمصارف والسياحة).
  • دعم صورة الحزب الحاكم في تركيا، باعتباره مطبقًا عمليًا لسياسات العثمانية الجديدة، (ويلاحظ هنا مثالًا أن القمة المقبلة ستعقد في طرابلس التي ظلت لأكثر من قرن مقرًا لحكم الأسرة القرمانلية التي ترجع أصولها لإقليم قرمان التركي).
  • تهميش التفاهمات والترتيبات المسبقة مع أهم الفاعلين في القارة الإفريقية، والاكتفاء بتنسيق شكلي مع الاتحاد الإفريقي ورئاسة مفوضيته على وجه الخصوص.

إجمالًا، نجحت تركيا في العقدين الماضيين في تحقيق نفوذ أكبر في القارة الإفريقية، ويتوقع أن يستمر هذا الاتجاه في مسار تصاعدي في ضوء إمكانات تركيا المناسبة للأسواق والمجتمعات الإفريقية؛ واستمرار انكشاف مناطق الأزمات الإفريقية أمام صدمات تقلبات السياسات الدولية، وما تؤدي إليه من تهميش متزايد لهذه الأزمات (كما في حالة أزمة شرقي الكونغو الراهنة، وكذلك في السودان)، مما يؤدي إلى الحاجة لأدوار قوى متوسطة، يمكنها تقديم حلول واقعية ملائمة لأطراف الأزمات. وفي المقابل تعمق تركيا حضورها عبر تهميش أدوار دول إفريقيا الرئيسة (في سياق العمل الجماعي بطبيعة الحالي وليس على مستوى العلاقات الثنائية)، وتوظيف سياسات النهب الدولية في القارة (عبر التخادم لواشنطن على سبيل المثال في أزمات مختلفة في إفريقيا)، على نحو يتناقض مع أهداف تركيا المعلنة في إفريقيا سواء عبر العلاقة مع الاتحاد الإفريقي، أم مع دول القارة بشكل ثنائي.