منذ اللحظة الأولى لتأسيسها، لم تنظر إسرائيل إلى جيرانها العرب كخصوم وحسب، بل أيضا، رأت فيهم كتلة صلبة، يصعب اختراقها، وستعيش هي في طوق من العزلة، عاجزة عن الاندماج، تواجه العداء، ومن هنا، وُلدت فكرة التعاون مع الأقليات المتوترة بمنطقة الشرق الأوسط، والسعي للتقارب معها، عبر خلق سرديات مشتركة، تمكنها من جذبهم، وفى ذات الوقت تقويض ما يمكن من علاقات تعايش بين الطوائف في المنطقة العربية.

تحول هذا التوجه، الذى ساهم في صياغته بن جوريون بداية الخمسينيات كرؤية ضمن استراتيجية أوسع لإسرائيل، تقوم على 5 مرتكزات، وتوظيف العلاقة مع الأقليات في إطار مواجهة موجة صعود أفكار القومية العربية.

 ولاحقا سعت إسرائيل للتحالف مع شاه إيران، والتعاون مع أكراد العراق منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى بناء علاقات مع الموارنة في لبنان، والدروز في سوريا.

نناقش هنا، كيف طورت إسرائيل سياساتها نحو الأقليات، بالتركيز على نموذجين: الأكراد والدروز، ونطرح سؤالًا محوريًا: ما الذي يجعل الأقليات هدفا إسرائيليا؟ وما أبرز صور التعاون معها؟ وهل يمكن أن تتطور إلى تحالفات راسخة، أم أنها ستبقى أوراقا وظيفية، تستخدمها في الصراع الإقليمي؟ وما الفارق بين الرهان بعيد المدى على الأكراد، والتعامل التكتيكي مع الدروز في سوريا ضمن الحسابات الأمنية الإسرائيلية؟

ما الذي يجعل الأكراد والدروز هدفًا لإسرائيل؟

الأكراد يمثلون حلمًا قوميًا مؤجلًا، يمتد عبر أربع دول، ويمكن لإسرائيل أن تراهن عليهم أداة تفتيت استراتيجي طويل المدى، أما الدروز، فهم أقلية صغيرة، لكنها ملتصقة جغرافيًا بحدود إسرائيل في الجولان، ما يجعلهم ورقة تكتيكية، تستخدمها تل أبيب لضمان أمنها المباشر.

هكذا يظهر التمدد الإسرائيلي في علاقاته بالأقليات، ليس كخيار عابر، بل كجزء من هندسة إقليمية؛ هدفها إضعاف الدولة الوطنية العربية، وتحويل الأقليات من ضحايا إلى أدوات صراع داخلي.

الأكراد– الحلم القومي واستثمار التهميش

لم تكن علاقة إسرائيل بالأكراد وليدة لحظة الحرب الأهلية السورية، بل هي امتداد لتاريخ طويل من التواصل، بدأ في شمال العراق، بداية من ستينيات القرن الماضي، إذ أقام الموساد شبكة دعم للملا مصطفى البارزاني، زعيم الحركة الكردية آنذاك، عبر تدريب مقاتليه وتزويدهم بالسلاح والاستخبارات، وعبر اتصال إيراني، وكان الهدف واضحًا استنزاف الدولة العراقية المركزية من خلال دعم أقلية تسعى إلى الانفصال. تلك التجربة تركت أثرًا عميقًا في الوعي الكردي ” إسرائيل يمكن أن تكون حليفًا بعيدًا، لكنه موثوق في لحظات الضعف”.

مع سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وجد الأكراد في العراق أنفسهم أمام فرصة تأسيس دولة مستقلة، أو حكم فيدرالي، هنا دخلت إسرائيل بثقل مختلف: ليس فقط عبر اختراق الاستخبارات، بل من بوابة الاقتصاد. وكانت أول مشتري للنفط الكردي، وهو ما منح أربيل دعما غير مباشر للتوجه نحو الاستقلال عن بغداد.

وحسب مصادر عبرية، هذه المشتريات تضخ أموالا ضخمة على إقليم كردستان، وتمنح معنى لمقولة سابقة لبنيامين نتنياهو، بأن “إسرائيل تدعم الأدوات الشرعية للشعب الكردي؛ كي يحصّل على دولته الخاصة”. عمليا أصبح ملف مبيعات الطاقة، طريقة لدعم الأكراد بشكل غير مباشر.

ووفقًا لتقرير لوكالة رويترز: شكّلت المبيعات السرية للنفط الكردي مصدرا للدخل، وهناك تقديرات أن ما يقارب 75% من صادراته، تذهب إلى إسرائيل، وهو ما عزز مكانة تل أبيب، خاصة مع التحول من تصدير النفط من الشبكات السرية إلى شكل معلن بداية من 2014، حين وصلت أول شاحنة لإسرائيل، والتي أعادت من البوابة الاقتصادية تثبيت نفسها في صورة حليف للأكراد، ليس فقط في العراق، بل مع كامل الطيف الكردي الممتد إلى سوريا وتركيا وإيران.

الحرب الأهلية في سوريا

مع الانتفاضة السورية عام 2011، وما تبعها من صراعات، وانزلاق البلاد إلى حرب أهلية، وجد الأكراد فرصة للانتقال من موقع الهامش إلى قلب المشهد السياسي والعسكري. ومع الانسحاب الجزئي لقوات النظام من مناطق في الشرق والشمال (الحسكة، كوباني، عفرين)، تشكّلت عام 2012 وحدات حماية الشعب المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، لملء الفراغ الأمني، وكتعبير عن أقلية، وبعد ثلاث سنوات، تأسست بدعم أمريكي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بوصفها تحالفًا أوسع يضم مكونات غير كردية، ومعها بدأت تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

هذا التحول لم يكن داخليًا فقط، بل استُثمر خارجيًا أيضًا. فبينما اعتمد الأكراد على واشنطن عسكريًا، التقطوا إشارات إسرائيلية متكررة، ترى في “القضية الكردية” صدى لتجربة اليهود قبل 1948، شعب مضطهد بلا دولة، يبحث عن اعتراف دولي. هذا الخطاب عزّز لدى بعض الأوساط الكردية إحساسًا، بأن تل أبيب لا تنظر إليهم كأقلية عابرة، بل كـحليف محتمل في خريطة إقليمية، تعاد صياغتها.

أدوات الاختراق: من الاقتصاد إلى الهوية

تنوّعت أدوات الاختراق الإسرائيلي للساحة الكردية بين الاقتصاد والاستخبارات والدبلوماسية.

اقتصاديًا، لعبت تل أبيب دورًا داعما، عبر تهريب وشراء النفط، بما وفر مصدرًا حيويًا لاقتصاد الإقليم، ورسّخ في الوقت ذاته أسبابا للاعتماد والتبعية.

 ودبلوماسيًا، مارست ضغوطًا في واشنطن والعواصم الأوروبية لإبراز “خصوصية المشروع الكردي” بوصفه قضية، تتجاوز حدود العراق وسوريا، أما استخباراتيًا، قدّمت إسرائيل معلومات ودعمًا نوعيًا عسكريا للأكراد. وعلى المستوى الرمزي، سوّقت خطابًا، يقارن بين “المظلومية الكردية” و”التجربة اليهودية” قبل 1948، ما منح العلاقة بُعدًا نفسيًا، يرتكز على الهوية.

وإجمالا، لا تتعامل إسرائيل مع الأكراد كأداة عابرة في لعبة النفوذ الإقليمي، بل كرهان استراتيجي طويل المدى. فقيام كيان كردي مستقل على حدود إيران وتركيا وسوريا والعراق، سيحدث تغييرا في معادلات القوة الإقليمية، ويفتح بالتالي هامشًا استثنائيًا لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، بما يخدم مصالحها الأمنية والسياسية.

الدروز– الأقلية التي على الحدود بين الرفض والاضطرار

إذا كان الأكراد بالنسبة لإسرائيل رهانًا بعيد المدى على مشروع دولة جديدة، فإن الدروز يمثلون حالة مختلفة: أقلية صغيرة، لكنها ملتصقة بالجغرافيا الإسرائيلية، ما يجعل إدارتها بالنسبة لتل أبيب جزءًا من الأمن المباشر.

بعد احتلال الجولان عام 1967، وجد الدروز السوريين أنفسهم في مأزق مزدوج: رفضوا معظمهم الجنسية الإسرائيلية، وأصرّوا على هويتهم السورية، لكنهم في الوقت نفسه، اضطروا للتعامل مع سلطات الاحتلال في التعليم والصحة والزراعة.

إسرائيل استغلت هذه الوضعية عبر سياسة “الجزرة والعصا”: منح تسهيلات اقتصادية وزراعية من جهة، وفرض قيود إدارية وأمنية من جهة أخرى. هذا خلق جيلًا درزيًا، يعيش حالة انقسام: التمسك بالهوية السورية والعربية من ناحية، والتكيّف مع الواقع الإسرائيلي من ناحية أخرى.

دروز السويداء: بين التهميش والخوف

يُقدَّر عدد الدروز بأكثر من مليون نسمة موزعين بين سوريا (نحو 700 ألف)، ولبنان (200 ألف)، وإسرائيل. ويتمركزون في سوريا أساسًا بمحافظة السويداء والقنيطرة وبعض الجيوب في دمشق. ومع اندلاع الحرب الأهلية السورية، زادت هشاشتهم: فالنظام لم يعد قادرًا على ضمان حمايتهم، والمعارضة المسلحة لم تمنحهم الثقة.

وجدت إسرائيل هنا فرصة لسردية حماية الأقليات، ووجهت رسائل بعضها في تصريحات رسمية، حول الدروز في 2015، بما يشكل مظلة سياسية، يمكن أن تستخدم كوسيلة ردع معنوية ضد أي تهديد محتمل، وهو ما جرى بعد عقد من الزمن.

في مارس 2025، ومع  أعمال عنف ارتُكبت في السويداء (وجرمانا بدرجة أقل)، وصف المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية ديفيد منسر العنف، بأنه “مذبحة للمدنيين”، وقال إن إسرائيل “مستعدة، إذا لزم الأمر للدفاع عن الدروز، واتضح لاحقًا، أن جيش الاحتلال أُمر بالاستعداد للتدخل المباشر.

ويمكن ملاحظة تعدد الأبعاد في علاقة إسرائيل بالدروز، من جانب حاولت أن تأخذ منحى إنسانيا، كما فتحت مستشفيات لعلاج جرحى، وتقديم مساعدات، واقتصاديا تسهيل تصدير التفاح من مزارع الجولان، وسياسيًا الترويج لصورة إسرائيل كحامية للأقليات، رافضة مظالم يتعرضون لها، فيما تعزز على مستوى أمني علاقاتها مع قيادات محلية، سواء بهدف ضمان الحياد أو التعاون معها.

إسرائيل والدروز: حسابات تكتيكية لا استراتيجية

على عكس الأكراد الذين تراهم إسرائيل استثمارًا بعيد المدى، فإن ورقة الدروز تُستخدم لضمان هدوء الحدود وحماية الجولان. وضمان أنهم لن يتحولوا إلى تهديد، وأن يبقوا جزءًا من “هوامش مُدارة” في الصراع السوري.

لكن ما يفاقم هشاشة الموقف الدرزي، ليس فقط ضعف النظام السوري، بل أيضًا غياب مظلة حماية عربية فعلية. فالمبادرات لحماية الأقليات ظلت غائبة أو شكلية، ما فتح الباب أمام إسرائيل لتقدّم نفسها– ولو دعائيًا– كضامن بديل، ودافع عن الدروز في سوريا، سواء في ظل نظام الأسد أو بعد سقوطه.

مقارنة بين الحالتين

تكشف قراءة الحالتين– الأكراد والدروز– عن منهجيتين متوازيتين في الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه الأقليات:

ترى إسرائيل الأكراد استثمارًا طويل الأجل. لا حدود مشتركة تجمع الطرفين، لكن الروابط صُنعت عبر التاريخ (دعم البارزاني في العراق)، ثم تعمّقت عبر الاقتصاد (شراء النفط) والدبلوماسية (الضغط في واشنطن وأوروبا) والإعلام (بناء رواية التشابه بين الأكراد واليهود). الأكراد ورقة، يمكن أن تغيّر الخريطة الإقليمية، إذا نجح مشروع إقامة “الدولة الكردية” أي أن الاختراق هدفه إعادة تشكيل الإقليم.

بينما مع الدروز، الوضع مختلف لعدة أسباب، هم موجودون بالفعل على تماس مباشر مع إسرائيل، سواء داخل أراضي 48 أو في الجولان المحتل. أدوات تل أبيب هنا يومية وبسيطة: خدمات وعلاقات مع زعامات محلية، ورسائل حماية سياسية. الهدف ألا تتحول هذه الأقلية الصغيرة إلى مصدر تهديد، بل يمكن أن تكون متعاونة أو محايدة. أي أن الاختراق هنا مباشر وقصير المدى، قائم على الحفاظ على الاستقرار وأمن الحدود.

وبين الحالتين يظهر الفارق في الرؤية الإسرائيلية، مع الأكراد، تراهن تل أبيب على تغيير الخريطة، بينما مع الدروز، تراهن على إدارة الجغرافيا.

هذا التباين، يكشف أن إسرائيل لا تتعامل مع الأقليات ككتلة واحدة، بل تُخضِع كل أقلية لحسابات مختلفة: وزنها الديموجرافي “العدد”، موقعها الجغرافي، وفرص توظيفها في الصراع.

الدروس المستفادة– الأقليات ورقة

من خلال تتبع مسار الأكراد والدروز مع إسرائيل، يتضح أن السؤال الجوهري ليس في طبيعة الدعم الذي يحصلون عليه، بل في وظيفية هذا الدعم، وهل يشكل التزاما يصل إلى مستوى التحالف، أم مجرد ورقة تُستخدم عند الحاجة ثم يُستغنى عنها؟

التجربة التاريخية تعطي مؤشرات واضحة. ففي العراق عام 1975، تخلّت إسرائيل والولايات المتحدة عن الأكراد بعد توقيع اتفاق الجزائر بين صدام حسين وشاه إيران، وهو ما ترك الحركة الكردية في مواجهة مصير دموي. هذه السابقة تجعل من كل وعود تل أبيب– سواء الاعتراف بدولة كردية أو ضمان الحماية للدروز وعودًا مشروطة بميزان المصالح، لا التزامًا استراتيجيا.

ويشير معهد دراسات الحرب في تقريره عن شمال سوريا، إلى أن افتقار القوى العربية إلى رؤية موحدة تجاه ملف الأكراد، جعلهم أكثر قابلية للاعتماد على الدعم الغربي والإسرائيلي، هذا يعني أن فراغ الحماية العربية كان عاملًا بنيويًا دفع الأقليات إلى أحضان أطراف أخرى، وهو ما تشير اليه دراسة حديثة لمؤسسة راند، إلى أن إسرائيل تنظر إلى الأقليات في المنطقة كأدوات “وظيفية”.

معضلة الأقليات بين الدول الهشّة وإسرائيل

تكشف الحالتان الكردية والدرزية عن معادلة أوسع من مجرد تواصل سياسي بين إسرائيل والأقليات. فالأمر في جوهره يعكس فشل الدولة الوطنية العربية في احتضان جميع مكوّناتها، ويفضح في الوقت نفسه برجماتية إسرائيل التي تتعامل مع هذه المكوّنات كأوراق تفاوض لا شركاء حقيقيين.

الأكراد ظلوا يبحثون عن دولة لم تولد بعد، فوجدوا في إسرائيل صوتًا داعمًا ونافذة على الغرب، لكنهم لم ينسوا، أن الحليف نفسه قد يتخلى عنهم عند أول صفقة إقليمية. والدروز، رغم قربهم الجغرافي واندماج بعضهم في المجتمع الإسرائيلي، ما زالوا يعيشون بين خوفين: خوف من تهميش الدولة السورية لهم، وخوف من أن تتحول “حماية إسرائيل” إلى قيد دائم على قرارهم ووجودهم، وإن صار قربهم بعد أحداث السويداء من إسرائيل واقعا ملموسا فيما هو قادم.

في النهاية، يمكن القول، إن العلاقة بين إسرائيل والأقليات ليست قصة ثقة متبادلة، بل قصة مصالح متبادلة، إسرائيل تستثمر في هشاشة هذه المجموعات لتعزيز نفوذها الإقليمي، بينما تلجأ الأقليات إليها بحثًا عن حماية مؤقتة من دول لا تمنحها الأمان.

المصادر

“دعوات إسرائيلية للدفاع عن دروز سوريا: كاتس وجّه تحذيراً جديداً لحكومة دمشق “الشرق الأوسط” 18 أكتوبر 2023.

“مخاوف الموحّدين الدروز في سوريا، تضعهم في حالتي انقسام وترقّب “الشرق الأوسط” 7 يونيو 2015.

“إسرائيل تعلن تأييدها قيام دولة كردية” BBC News عربي، 13 سبتمبر 2017.

المصادر الأجنبية:

Agence France-Presse. “Who are the Middle East’s Druze Minority?” Al-Monitor,July 15 ،2025

Smyth, Gareth. “Periphery: Israel’s Search for Allies in the Middle East by Yossi Alpher.” The Guardian, April 30 ،2015،

“The ‘Periphery Doctrine’: Is Israel Returning to the ‘Minorities Alliance’? – Analysis.” Palestine Chronicle, January 4 ،2025

Zhdannikov, Dmitry. “Exclusive: How Kurdistan Bypassed Baghdad and Sold Oil on Global Markets.” Reuters, November 17 ،2015،

Reuters. “After Violence in Syria, Israel Says It Is Prepared to Defend Syria’s Druze.” Reuters,  March 10 ،2025.

RAND Corporation. Strategic Survey of the Middle East: Trends and Scenarios

 RR2799. RAND Corporation, December 12 ،2022،