“الاعتراف بفلسطين”.. إخراج الاحتلال من الرعاية الأوروبية
يأتي اعتراف بريطانيا وكندا ودول أوروبية بفلسطين دولة ذات سيادة كنقطة انعطاف، تُدخل أدوات الاقتصاد في صميم الصراع، وليس مجرد حدثا بروتوكوليا.
الأدوات الاقتصادية قد تشمل تفضيلات جمركية، وقواعد المنشأ، ومخاطر السمعة، ومعايير التمويل المشروطة بالإصلاح والحوكمة.
الرسائل البريطانية الرسمية ربطت الاعتراف بحل الدولتين، وفتح مسار عملي حقيقي للسلام، لا كمكافأة لأي فصيل مسلح.
وصدق رئيس الوزراء البريطاني ذلك بخطاب مباشر، يضع الاعتراف ضمن التزامات لندن التاريخية والسياسية، ويعلن الانضمام الى أكثر من 150 دولة، تعترف بفلسطين في إطار موجة سياسية؛ تهدف إلى الضغط لوقف الحرب في غزة، وكبح الاستيطان والعودة للمسار التفاوضي مع الاعتراف، بأن الأثر الميداني الفوري يظل محدودا بلا أدوات تنفيذ مكملة، ولكن بتأثيرات اقتصادية تبدو مكلفة لإسرائيل.
السياسة تتحول لأدوات اقتصاد
التحول الأبرز أوروبيا هو الانتقال من بيانات الإدانة إلى تعليق جزئي للتفضيلات التجارية التي تنالها الصادرات الإسرائيلية، بموجب اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.
وحسب يورو نيوز، الخطة لا تحظر التجارة، لكنها تعيد فرض رسوم جمركية على قرابة الـ37% من صادرات إسرائيل الى الاتحاد الأوروبي، بينما يبقى نحو 60% عند التعريفة الصفرية، بموجب اتفاق “الأمة الأكثر رعاية” في منظمة التجارة العالمية.
بهذا تصبح الرسوم الجمركية العصا التنظيمية التي ترفع كلفة شريحة معتبرة من السلع الإسرائيلية، وتبعث برسالة سياسية واضحة بدون صدمة تجارة شاملة.
تجمع الحزمة الأوروبية المطروحة بين زيادة الرسوم على سلع محددة، وعقوبات فردية على بعض المستوطنين، ووزيرين من اليمين المتطرف، بهدف توسيع نطاق الضغط لرفع التكلفة السياسية للسياسات الإسرائيلية الراهنة.
هذه المقاربة تجعل الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية مرئيا في لوائح الجمارك لا في بيانات السياسة فقط.
بالطبع الأمر سيزيد من العزلة التي بدأت دولة الاحتلال تدخلها، والتي اعترف بها نتنياهو بنفسه، وأعلن أن على إسرائيل مجابهتها.
إعادة توزيع أدوات الضغط
بحسب بيانات المفوضية الأوروبية، حجم التجارة السلعية بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي في عام 2024، بلغ 42.6مليار يورو، واردت للاتحاد من دولة الاحتلال، بينما بلغت صادراته إليها 26.7، في المقابل ظل التبادل التجاري مع فلسطين محدودا جدا، إذ لم يتجاوز 346 مليون يورو من الواردات الفلسطينية إلى أوروبا معظمها منتجات زراعية وزيوت.
هذه الفجوة الضخمة تدفع الآن الاتحاد الأوروبي، نحو إعادة تسعير الصادرات الإسرائيلية عبر الرسوم والتعريفات، بدلا من التعويل على تغير سريع في حركة التجارة الفلسطينية الضعيفة والمقيدة.
ومع ذلك، لا يخلو الاعتراف من أثر محتمل على الأرض. إذا تحولت الأوضاع على الأرض، وتحسنت حرية الحركة، وفتحت الأبواب أمام نمو الصادرات الفلسطينية في قطاعات الزراعة والأغذية.
قواعد المنشأ ومنتجات المستوطنات
الاعتراف بفلسطين يعزز فكرة تدقيق المنشأ، بمعنى أن أي سلعة تصنف، أنها قادمة من مستوطنين في أراض محتلة، تصبح عرضة لرسوم جمركية، وتسقط أهليتها للاستفادة من التفضيلات التجارية. ويضاف إلى ذلك، مخاطر السمعة على سلاسل التوزيع الأوروبية، حيث يظهر اتجاه واضح لدى الاتحاد الأوروبي لحظر ووسم منتجات المستوطنات كجزء من حزمة الضغط.
عمليا، هذا يعني أن المشترين الأوروبيين سيعيدون مراجعة مورديهم، مما يرفع تكلفة التأمين، ويؤثر على المدد الزمنية لسلاسل الإمداد واتفاقات التوريد طويلة الأجل.
لندن وأوتاوا… تمويلٌ مشروط
البيان البريطاني، والرسالة الرسمية لرئيس الوزراء يربطان الاعتراف بإطار عمل واضح، سلطة فلسطينية مُصلحة “خضعت للإصلاح”، ولا دور لحماس في الحكم والأمن، واستئناف مسار سياسي على حدود 1967.
هذه الصياغة تُمهّد لزيادة المعونة والتنمية المشروطة، دعم مالي وتقني؛ يهدف إلى رفع كفاءة المالية العامة، والجمارك، والمشتريات، وسيادة القانون، مقابل إصلاحات ملموسة، بهذا يصبح الاعتراف رافعة حوكمة.
تمويل مقابل نتائج، لا شيكات مفتوحة.
سلاسل التوريد الأوروبية- الإسرائيلية، وشركات في قطاعات الصناعة والكيماويات والنقل، قد تواجه تآكلا في هوامشها، مما يعني اضطرارها لإعادة توزيع مصانع وموردين في منطقة المتوسط؛ لتفادي أخطار الرسوم والسمعة كذلك، بعض الشركات ستعيد مراجعة سياسات التوريد للأراضي المحتلة، تحسبا لتشريعات أو دعاوى قضائية.
كل هذا بخلاف أن أي تصعيد في الجانب التجاري يترجم إلى أموال تأمين وتأخيرات، مما يضغط على تجارة حساسة زمنيا مثل الكيماويات والمكونات الصناعية.
أين يلتقي الاقتصاد بالسياسة
المشهد ليس اقتصاديًا خالصًا، إسرائيل تصف الاعتراف، بأنه “جائزة للإرهاب”، بينما يدعو قادة يمينيون إلى ضم أجزاء من الضفة، ما يزيد كلفة المخاطر السياسية، ويضيّق هوامش التجارة.
في المقابل، ترى واشنطن بوست، الخطوة كقطيعة مع الموقف الأمريكي التقليدي، مع ترقب لتداعياتها، تعريفات، عقوبات، وربما إطار أممي للتنفيذ.
هذا التباين عبر الأطلسي سيؤثر مباشرة على تنسيق السياسات التجارية والمالية، خاصة في قطاعات حساسة كالتكنولوجيا والدواء والطيران، وهي قطاعات ضخمة مؤثرة في الاقتصاد الإسرائيلي، والخلخلة فيها في المرحلة الحالية في ظل تراجع المؤشرات الاقتصادية من شأنه احداث خلخلة محسوسة في الإطار الاقتصادي العام لدولة الاحتلال.
في المقابل يفتح الاعتراف البريطاني الباب لترقية التمثيل مع فلسطين، وتوقيع مذكرات تفاهم، وتمويل مشاريع بنية تحتية، إذا توفرت ترتيبات أمنية.
وكذا نفاذ أكبر للأسواق الأوروبية، حيث قد تتحول التعريفات وقواعد المنشأ لمصلحة المنتجات الفلسطينية الزراعية، والغذائية إذا تحسّن العبور عبر المعابر، وارتفعت معايير الجودة.
وتبقى أي مكاسب مرهونة بقدرة المؤسسات الفلسطينية على الحوكمة، الشفافية، وإجراء انتخابات. من دون ذلك يبقى الأثر محدودًا على الاقتصاد الحقيقي.
الاعتراف وحده لا يكفي
ما يحدد أثر الاعتراف بدولة فلسطين، هو ترجمته إلى سياسات اقتصادية وضغوط عملية، وهنا يبرز الغياب العربي كعنصر فارق. إذا كان الغرب بدأ باستخدام التجارة والاستثمار كسلاح سياسي، فإن على الدول العربية أن تدرك أن قوة تأثيرها الحقيقية ليست في البيانات، ولا في الخطاب الدبلوماسي، بل في تحريك أدواتها الاقتصادية، أسواق الطاقة، التمويل، الاستثمارات السيادية، وشبكات التجارة الإقليمية.
قرار الاعتراف يضع الاقتصاد في خدمة السياسة، تعريفات، تفضيلات، منشأ، تمويل مشروط، قوته لا تأتي من البلاغة، بل من ترجمة الاعتراف إلى واقع.
الاتحاد الأوروبي يملك أدوات تدريجية، تؤلم من دون قطعٍ كامل للعلاقات، بريطانيا وكندا تضعان شروط حوكمة، تجعل المعونة استثمارًا في بناء مؤسسات دولة قابلة للحياة. ما سيحسم أثر الاعتراف اقتصاديًا هو الإرادة الاقتصادية، وإلا سيظل الاعتراف عنوانًا كبيرًا بلا ميزانية تفصيلية.