الملخص

بينما تحاول مصر تطوير منظومة العمل والسلامة والصحة المهنيتين، ما زال الأطفال بين 14– 18 سنة، هم الحلقة الأضعف عند الالتحاق بالتدريب، وبين 15– 18 سنة الأضعف عند الالتحاق بالعمل، وهم الأكثر حاجة للحماية في عالم العمل، وهو الأمر الذي يستحق الاهتمام بتفعيل إجراءات تنفيذية أكثر إحكاما لقانون العمل الجديد رقم (14) لسنة 2025، أكثر فعالية وإحكاما من القرار التنفيذي السابق رقم (215) لسنة 2021.

البداية

قبل إشراقة أول ضوء للفجر بحوالي 3 ساعات، يستيقظ محمود (15 عامًا) مبكرًا؛ لينضم إلى سيارة نصف نقل متهالكة متجهة إلى الحقل. وعند الوصول ينضم لثلة من الأطفال الآخرين وسط شكارات أسمدة ومبيدات.

ولاستكمال المأساة، تنقلب السيارة التي تقله مع وزملائه الأطفال، وهم في طريقهم للعمل ذات صباح؛ بسبب سرعة السائق في تباشير ضوء الفجر، ليصاب بعض الأطفال، ويكون نصيب محمود الإصابة بكسر في ذراعه، بينما يعود بقية زملائهم الذين فلتوا من الإصابات المباشرة محمّلين بآلام الإرهاق والاكتئاب، غير ما تشاركه كل الأطفال من لسعات الحشرات والسعال المزمن.

هذه القصة، رغم فرديتها، تعكس واقع آلاف الأطفال في مصر، فيما يعانونه في طريق الانتقال من مساكنهم في قراهم وأماكن العمل، التي كثيرا ما تكون بعيدة عن حزام القرى وفي أراض جديدة، وهو الأمر الذي يحتاج الاجتهاد؛ لتوفير حماية قانونية كافية للأطفال في الانتقال إلى أماكن عملهم وعودتهم لمنازلهم.

القرار الوزاري رقم (215) ما هو ولماذا صدر؟

صدر عن وزارة العمل لتحديد نظام تشغيل وتدريب الأطفال، وضبط الظروف التي يُسمح فيها بالتشغيل، مع وضع قائمة بالأعمال والمهن المحظورة، بما يتوافق مع المعايير الدولية لحماية الطفل.

أهم ما نص عليه القرار:

  • تعريف الطفل: كل من لم يبلغ 18 سنة ميلادية.
  • حظر تشغيل من هم دون 15 سنة، أو قبل إتمام التعليم الأساسي (أيهما أكبر).
  • السماح بالتدريب من سن 14 سنة فقط، دون تكليف بأعمال أثناء التدريب.
  • منع تشغيل أو تدريب الأطفال دون 18 سنة في الأعمال الخطرة أو غير المشروعة، أو التي قد تهدد صحتهم وسلامتهم وأخلاقهم.
  • تحديد ساعات العمل بـ6 ساعات يوميًا كحد أقصى، مع راحة إجبارية ساعة، ومنع ساعات العمل الإضافية، أو العمل ليلًا (7 مساءً– 7 صباحًا)، أو في العطلات.
  • منح الأطفال إجازة سنوية أطول بـ7 أيام من البالغين، غير قابلة للتأجيل أو الحرمان.
  • إلزام أصحاب الأعمال بإجراء فحص طبي ابتدائي ودوري، مع الاحتفاظ ببطاقة صحية للطفل العامل أو المتدرب.
  • إلزام المنشآت بتوفير شروط السلامة المهنية، وأدوات الوقاية، والتدريب على استخدامها، والفصل بين الأطفال والبالغين.
  • توفير وجبة غذائية صحية يوميًا للأطفال مجانًا.
  • إلزام صاحب العمل بالتأمين الاجتماعي للأطفال العاملين لديه ضد إصابات العمل والأمراض المهنية.
  • التزامات إدارية: تعليق اللوائح، إخطار الجهة الإدارية بأسماء الأطفال، إعداد كشوف بيانات، الاحتفاظ بالمستندات الرسمية لإثبات السن واللياقة الصحية.

ورغم كل هذا التقدم المحمود، والامتثال التام لمعايير العمل الدولية، إلا أن القرار لم يراع بعض المستحدثات والتفاصيل الفنية التي تتصل ببعض مخاطر بيئة العمل، مثل ما كشفت عنه حوادث الطرق التي تعرض لها الأطفال– خاصة هؤلاء العاملين في الزراعة- والتي أدمت القلوب، وأهدرت كل ما حرص عليه القرار من ضمانات تشغيل الأطفال.

بيئة العمل الآمنة: الركن المفقود

اعتبر قانون العمل المصري الجديد رقم (14) لسنة 2025، أن تأمين بيئة العمل ركيزة أساسية للسلامة والصحة المهنيتين، واشتمل تأمين بيئة العمل، على ما يأتي:

  • تهوية وإضاءة ومياه نقية.
  • أدوات وقاية شخصية تتناسب مع عمر مستخدمها، وظروف عمله.
  • نقل آمن من وإلى مواقع العمل.
  • اعتبار الأطفال أكثر عرضة من غيرهم للمخاطر، وأي تعرض قصير، قد يترك لديهم آثارًا دائمة. لذا يصبح إدماج مبدأ “بيئة العمل الآمنة” في القرار 215 ضرورة لا ترفًا.

المنظومة التشريعية المتكاملة لحماية الأطفال

  • قانون الطفل 12 لسنة 1996: يحظر الاستغلال الاقتصادي للأطفال.
  • قانون التعليم 139 لسنة 1981: يشترط استكمال التعليم الأساسي قبل أي تشغيل.
  • قانون التأمينات 148 لسنة 2019: يربط تشغيل وتدريب الأطفال بالتأمين ضد إصابات العمل.
  • قانون الزراعة 53 لسنة 1966: ينظم استخدام المبيدات، ما يجعل تشغيل الأطفال في الرش أو المناولة مخالفة مزدوجة.
  • قانون العمل 14 لسنة 2025: رسّخ الحماية من المخاطر الفيزيائية والكيميائية والنفسية والاجتماعية، وأدخل حق الانسحاب من مواقع العمل، إذا ما شكلت خطرًا.

تعمل هذه المنظومة التشريعية، مع ما يتبعها من قرارات تنفيذية، وتشريعات أخرى ذات صلة بها، وبما سيدخل عليها لمواءمة ما جاء في قانون العمل الجديد (14) لسنة 2025، على خلق حماية متكاملة لحماية الأطفال، وإن بقي القرار المنتظر لتنفيذ المادة (63) من قانون العمل الجديد، هو الأداة الحاسمة في إعمال كل تلك المنظومة في عالم تشغيل وتدريب الأطفال في بيئة صحية وآمنة.

القرار 215: خطوة جيدة تحتاج الآن إلى تحديث

رغم أهمية القرار 215 لسنة 2021، في تحديد نظام تشغيل وتدريب الأطفال والظروف والأحوال التي يتم فيها التشغيل والأعمال والمهن والصناعات التي يحظر تشغيلهم فيها، إلا أن القرار لم يتعامل بالتفصيل مع المهام التي قد تشكل خطورة على الأطفال، ومنها بعض صور العمل في:

  • الزراعة: حيث لم يشمل الرش بالمبيدات أو التحميل الثقيل أو العمل في ظروف جوية قاسية.
  • المركبات: حيث لم يشمل البطاريات والرافعات والاختبارات الديناميكية.

هذه النقاط تجعل الفئة 15– 18 سنة مكشوفة أمام مخاطر حقيقية عند إلحاقها بالتشغيل، وتضع الشكوك حول مدى الامتثال للمعايير الدولية.

الالتزام الدولي: مصر على طريق الامتثال الكامل، إلا أن

  • اتفاقية منظمة العمل الدولية (رقم 138): تحدد الحد الأدنى للسن، وتمنع تشغيل من هم دون 18 عامًا في أية أعمال خطرة.
  • اتفاقية منظمة العمل الدولية (رقم 182): تحظر أسوأ أشكال عمل الأطفال، وتحدده في أي عمل يعرض صحة أو سلامة أو نمو أو أخلاق الطفل للخطر.

وقد صادقت مصر على الاتفاقيتين، وحرصت على كامل الامتثال لهما، وإن بقي التحدي في تحويل أحكام الاتفاقية إلى سياسات وإجراءات تنفيذية فعّالة.

والجدير بالذكر، أنه بناء على اعتماد منظمة العمل الدولية تعديل إعلان المبادئ والحقوق الأساسية في العمل (1998)، خلال الدورة الـ 110 لمؤتمر العمل الدولي 2022، بإضافة مبدأ أساسي خامس، يتضمن “بيئة عمل آمنة وصحية” ضمن مبادئ وحقوق العمل الأساسية، اعتبارا من يونيو 2022.

وبذلك أصبح الالتزام بتوفير بيئة عمل آمنة وصحية ملزمًا لجميع الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية، حتى وإن لم تكن قد صدقت على اتفاقيتي السلامة والصحة المهنيتين الأساسيتين (رقم 155) و(رقم 187).

“جمع الياسمين”… الواقع الملموس

في قرية شبرا بلولة لمحافظة الغربية في دلتا نيل مصر، يشارك أطفال صغار في مواسم قطف الياسمين، ويتعرضون خلال ذلك للمبيدات الزراعية المختلفة، وإلى لسعات الحشرات، ويعملون لساعات طويلة، تبدأ غالبا قبل الصباح، وفي ظروف لا تخلو من الخطر.

وقد دفع هذا منظمة العمل الدولية بالقاهرة، ورابطة العمل العادل للتعاون مع الحكومة المصرية، لتطوير مشروع، يستهدف تحسين الأجور وتقليل عمالة الأطفال في هذه السلسلة.

كما كشف هذا النموذج عن أن المشكلة ليست في النصوص فقط، بل في غياب برامج المتابعة والرقابة على تفاصيل العمل اليومي في مثل هذه الأعمال.

الجهود الوطنية

  • وزارة العمل: تقود وزارة العمل تنظيم قرارات مراقبة والتفتيش على واقع العمل في مصر، كما تدير الخطة الوطنية لمكافحة أسوأ أشكال عمل الأطفال (2018– 2025)، والمتوقع مدها لمرحلة جديدة أكثر شمولًا.
  • المجلس القومي للطفولة والأمومة: يدير المجلس آلية الإحالة الوطنية لمكافحة عمل الأطفال، وخط نجدة الطفل (16000).
  • اللجنة التوجيهية للخطة الوطنية: تضم اللجنة وزارات: العمل، التضامن، التعليم، الزراعة، الداخلية، وعدد آخر من الوزارات.
  • المجتمع المدني: تشارك منظمات المجتمع المدني مثل: جمعية الحياة الأفضل، وكاريتاس مصر، في الأنشطة الميدانية لمكافحة عمل الأطفال.
  • الشركاء الدوليون: ILO، FLA، Save the Children، CRIB، وجميعهم يدعمون جهود مكافحة عمل الأطفال.

الأطفال هم الفئة الأكثر هشاشة عند الحديث عن السلامة والصحة المهنية

  • المخاطر الفيزيائية: الضوضاء، الحرارة، الاهتزاز، الارتفاعات.
  • المخاطر الكيميائية: المبيدات، المذيبات، الأصباغ.
  • المخاطر البيولوجية: النفايات الحيوانية، لسعات الحشرات.
  • المخاطر النفسية والاجتماعية، العنف، التحرش، التنمر، التمييز، ساعات العمل المرهقة.

يعد الأطفال أكثر عرضة لهذه المخاطر، لأن أجسامهم ونفسياتهم، ما زالت في طور النمو، وأي تعرض قصير– أو حتى قليل- قد يترك آثارًا دائمة، لا يمكن تداركها.

التوصيات: إلى ماذا نسعى ونحن نُعدّل القرار 215؟

يجب أن نحرص، ونحن نعد قرار تنفيذ المادة (63) من قانون العمل الجديد رقم (14) لسنة 2025، والمعدل للقرار 215 لسنة 2021، على ما يأتي:

  • تقسيم الأعمال الخطرة بحسب مهام العمل، لا بحسب قطاعات العمل فقط.
  • إدماج “بيئة العمل الآمنة والصحية” كشرط إلزامي في شروط تدريب وتشغيل الأطفال.
  • إدراج مخاطر الطريق ضمن معايير السلامة.
  • إطلاق منصة رقمية للإبلاغ عن حوادث الأطفال العاملين اتساقا مع توصيات قانون العمل رقم 14 لسنة 2025.
  • ربط سلاسل الإمداد الزراعية بالتزامات شروط وأحكام تشغيل الأطفال.
  • مواءمة القرار الجديد لحظر رش ومناولة المبيدات، الواردة في قانون الزراعة.

خاتمة

تمتلك مصر منظومة تشريعية متقدمة وممتثلة لمعايير العمل الدولية بقدر كبير، كما تملك خططًا وطنيةً، تتماشى مع التزاماتها الدولية، لكن الفجوة الحقيقية تكمن في تفاصيل تنفيذ الأحكام، والقدرة على المتابعة الميدانية لواقع العمل، خاصة في الزراعة.