شهدت العلاقات السعودية الإماراتية خلال العامين الأخيرين تحولات لافتة في عدد من الملفات الإقليمية، أبرزها اليمن والسودان، ذلك بعد سنوات من التنسيق على أرضية تلاقي المصالح الاستراتيجية.

يناقش هذا التقرير طبيعة ومصادر التباينات، بما ينعكس في حرب باردة بين الرياض وأبوظبي رقعتها البحر الأحمر، تترك بصماتها على الأمن الإقليمي وموازين القوى في المنطقة.

ملفات الخلاف بين الرياض وأبوظبي

باتت الخلافات السعودية الإماراتية في ملفات إقليمية متعددة، من اليمن إلى السودان مرورًا بالبحر الأحمر، تتصدر المشهد الإقليمي، وتوحي بوجود تنافس تقليدي مرشح لأن يتصاعد إلى صراع بين البلدين الخليجيين.

يأتي ذلك بعد فترة من الارتباط بين مصالحهما واستراتيجياتهما في هذه الملفات لسنوات، لا سيما خلال الحرب التي قادتها السعودية في اليمن بدعم إماراتي وغربي كبير، وتمكن خلالها البلدان من استقدام قوات برية سودانية ضخمة، إضافة إلى تنسيق العمل بينهما في ملف السودان، سواء عبر منبر جدة، والذي أصرت الرياض خلاله على احترام رؤية الإمارات ومعاملة طرفي الحرب على قدم المساواة، أو عبر الرباعية الدولية التي تضم أيضا الولايات المتحدة ومصر.

وخلال تلك المرحلة، لم تثير الرياض اعتراضات على المواقف الإماراتية المتشددة تجاه الجيش السوداني، كما اتضح في بيان سبتمبر 2025، الذي فرض وصاية على مستقبل العملية الانتقالية في السودان عبر تسمية مكونات إسلامية للإقصاء، وتجاوز– بتأييد سعودي وتحفظات مصرية محدودة التأثير– النص على ضمانات لمرحلة انتقالية سلمية، تكفل حقوق المواطنة والتمثيل المناسب لمختلف مكونات المجتمع السوداني، بما أسهم في دفع العملية السياسية نحو استقطابات مسبقة.

البحر الأحمر ساحة التنافس

في ملف البحر الأحمر، الذي يمثل للمفارقة المحك الأكبر راهنًا للخلافات، رغم أن الإمارات ليست من دوله، فإن التنافس بين البلدين يتخذ أشكالًا متعددة.

تتوغل  الأمارات في الاستحواذ وإدارة عدد من المواني، لا سيما في مصر والصومال، مع وضع أهداف إضافية في جيبوتي وإريتريا والسودان، بينما هناك مساع سعودية حثيثة لترسيم الحدود البحرية مع السودان والبدء في استخراج ثروات تقع داخل المياه الإقليمية، ولا يمكن فصل  ذلك عن مساعي إثيوبيا للحصول على منفذ على البحر الأحمر بدعم من حليفتها الإقليمية الإمارات.

وتزامن ذلك مع تبني الرياض في الأسابيع الأخيرة سياسة أكثر توازنًا تجاه السودان واستقراره والحفاظ على سيادته في مواجهة سياسات أبوظبي الخشنة في نفس الملف، والتي وصلت للتهديد العملي (عبر ذراع الإمارات في السودان: ميليشيات الدعم السريع) بضربات عسكرية داخل مصر، وهي التهديدات الأولى من نوعها التي تواجه القاهرة منذ خمسين عامًا تقريبًا، ومثلت “نقطة فاصلة” في رؤية الرياض للملف السوداني وخطورة “تفهم” مواقف الإمارات على المدى القريب والمتوسط، وليس البعيد فحسب.

الأزمة في اليمن: سودان جديد على حدود السعودية

في منتصف ديسمبر الجاري، أحكمت جماعة انفصالية قبضتها على اثنتين من كبرى محافظات اليمن، في تطور اعتبرته تقارير إقليمية (لا سيما الإسرائيلية التي كثفت اهتمامها بالملف) جزءاً من صراع النفوذ بين أبوظبي والرياض، بغض النظر عما يسببه ذلك من استمرار لمعاناة الشعبين في السودان واليمن.

شكّلت سيطرة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي على محافظتي حضرموت والمهرة شرق البلاد (على الحدود مع السعودية وسلطنة عمان) تهديداً وجودياً لسلطة الحكومة المعترف بها دولياً، والتي فقدت سابقا سيطرتها على العاصمة صنعاء ومعظم مناطق نفوذها لصالح الإدارة المنافسة التي شكلتها جماعة أنصار الله.

ويتأزم موقف السعودية التي سحبت جميع قواتها العسكرية إلى المنطقة الحدودية، مع الدعم الكامل الذي تقدمه الإمارات للمجلس الانتقالي الجنوبي على نحو بات يذكر دون مواربة بالتجربة السودانية عند حدود مصر الجنوبية، وتهديدات ميليشيات الدعم السريع للأمن القومي المصري بعد استيلائها على المثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا، حسب إعلان قائد الميليشيا محمد حمدان دقلو في يونيو الماضي.

وإلى جانب المخاوف السعودية التقليدية من تحولات الهيمنة الإماراتية في اليمن، فإن موقع حضرموت والمهرة الجيو استراتيجي، وتركز عدد من أهم الاستثمارات السعودية في محافظة حضرموت (إضافة إلى الروابط التاريخية الخاصة معها)، يثير مخاوف متعاظمة لدى الرياض من دوافع التمدد الإماراتي (والمرتبط بشكل عضوي برؤية كل من إسرائيل والولايات المتحدة للأزمة في اليمن).

 وينسحب ذلك أيضًا على تقاطعات سياسات البلدين الإقليمية في حوض البحر الأحمر الجنوبي والقرن الإفريقي، وفرض تهديدات بعيدة المدى على الحدود الجنوبية السعودية، لا سيما أن حضرموت لم تحضر بشكل مباشر في الأزمة العسكرية وعملياتها عند وقوع الحرب في اليمن 2015، وهو ما يعني اتساع رقعة المواجهات لتشمل كامل الخط اليمني- السعودي. وهي محددات ترتبط أيضًا بمحافظة المهرة الحدودية مع سلطنة عمان، لكن في سياق مختلف، ويؤثر بالكامل على بنية الأمن الإقليمي لدول مجلس التعاون الخليجي بتهديد جديد لدولة عمان.

وقد وجهت الرياض، عن طريق قنوات غير مباشرة، تهديدات لقوات المجلس الانتقالي الجنوبي بتلقيه ضربات جوية مؤثرة عقب تجمع نحو 20 ألف جندي من القوات المدعومة من السعودية في حالة بقاء المجلس الانتقالي في  المناطق التي هيمن عليها مؤخرًا، ضمن خطته لفرض تقسيم اليمن والعودة إلى وضع ما قبل العام 1990.

في هذا الإطار، يشير تقرير للجارديان (18 ديسمبر) إلى احتمالات لوقوع مواجهات بين قوات المجلس الانتقالي والقوات التي تدعمها السعودية (الدرع الوطني).

بينما يرى عدد من المحللين، أن تقدم قوات المجلس الانتقالي لم يكن ليتم بهذه السهولة “دون تفاهمات مسبقة بين السعودية والإمارات، أو توجيهات سعودية غير معلنة لقوات “الإقليم العسكري الأول” التابعة لمقاتلي حزب الإصلاح المدعوم سعوديًا بالانسحاب وتسليم مواقعه للمجلس الانتقالي، ذلك ضمن ترتيب سعودي- إماراتي “مدروس” لإعادة تشكيل الوضع في اليمن بأكمله، وهي تحليلات ترتكز على مصالح  البلدين في تقسيم اليمن ومواجهة تهديدات خارجية مشتركة مثل إيران. لكن خبراء فندوا هذه التحليلات، ورأوا أنها قائمة على توجهات أيديولوجية مسبقة. 

البحر الأحمر: الحرب السعودية الإماراتية الباردة

كشفت مواقع عسكرية متخصصة (أكتوبر 2025) عن ترجيح إقدام الإمارات على بناء ممر طيران عسكري في جزيرة ذي قار، وهي جزيرة استراتيجية في البحر الأحمر وكبرى جزر أرخبيل جزر حنيش، وتقع على بعد 55 ميل جنوب ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثيون في اليمن حتى الآن.

 وحسب تقرير فصلته وكالة أسوشيتدبرس، فإن شركات إماراتية معنية بدعم الأنشطة المناهضة للحوثيين في السنوات الأخيرة تواصل العمل في بناء الممر الذي يصل طوله إلى ألفي متر، ويتواصل العمل في الجزيرة منذ إبريل 2025، وكشفت الصور المتتابع التقاطها بالأقمار الصناعية للموقع، أن منتصف أكتوبر 2025 شهد نقلة نوعية في هذه الأعمال مع بناء مخزن لوجيستي قرب الممر.

وتأتي الخطوة الإماراتية لتثير تهديدات حقيقية بحدوث انقلاب في ترتيبات الأمن في البحر الأحمر وانفلات زمام المبادرة فيه من يد السعودية، لا سيما أن موقع الجزيرة يأتي على بعد مائة ميل فقط شمال مضيق باب المندب، وأن أية ترتيبات عسكرية إماراتية في المنطقة ترتبط بالعناصر العسكرية الإسرائيلية والأمريكية ارتباطًا مباشرًا، ويتوقع أن تنضم لهذه العناصر قوات داعمة من دول الإقليم التي ترتبط مع الإمارات بارتباطات استراتيجية متصاعدة (وأبرزها إثيوبيا بالتوازي مع مطالبها بالوصول للبحر الأحمر، وما يتردد عن تقارير المطالب الأمريكية بإرسال إثيوبيا قوات لحفظ السلام في غزة بضوء أخضر إسرائيلي).

ويشير عمل الإمارات في جزيرة ذي قار إلى تغير خطير في توازن الوجود العسكري السعودي- الإماراتي في اليمن (بغض النظر عن مدى التنسيق أو وجود مستويات استخباراتية عسكرية من التفاهم التكتيكي) واحتمالات مرجحة بتجاوز المهام المرتقبة لهذا الوجود مسألة اعتراض “الأسلحة الإيرانية” المارة من باب المندب إلى تعزيز السلطة للقوى اليمنية المدعومة من الإمارات، والتي سيطرت على الجزيرة من يد الحوثيين منذ العام 2015.

كما لا يخفى أن خطوات الإمارات في البحر الأحمر، من مدخله الجنوبي عند باب المندب إلى قناة السويس في شماله، تجسد تمامًا دمج أبوظبي بين مصالحها الاقتصادية وأدواتها العسكرية (أو توظيفها كمظلة لأدوار عسكرية أخرى تفاديًا لحساسيات إقليمية مثل التنسيق غير المسبوق مع إسرائيل في البحر الأحمر) وتعميق هذه الصلة، على الأقل من أجل تحييد عدد من الدول أو المواني التي لفظت الحضور الإماراتي في البحر الأحمر مثل جيبوتي والسودان، وتجاوز قدراتها التنافسية.

 وهو الأمر الذي وصل لمستويات غير مسبوقة بإعلان الرئيس الجيبوتي عمر جيله، أن الإمارات تستغل استثماراتها البليونية في إفريقيا “كغطاء للتوسع العسكري” وتهديد سيادة الدول الإفريقية، وهذه التصريحات لا يجب فصلها عن وثاقة الصلة بين جيبوتي والسعودية، حيث تحل جيبوتي في المرتبة الثانية في قائمة دول البحر الأحمر المتلقية لاستثماراتها بعد مصر.

 كما يمثل اقتراب تموضع الإمارات في البحر الأحمر من مياه السعودية الإقليمية تغييرًا جذريًا في بنية الأمن في الإقليم، أخذًا في الاعتبار طبيعة التنسيق العملياتي الإماراتي الإسرائيلي في السنوات الأخيرة.

السعودية في مواجهة المشروع الإماراتي في السودان

مثلت استضافة السعودية (ثم مصر) لرئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان ( 15 ديسمبر) وجدول أعمال الاجتماعات معه الذي شمل الأوضاع الإقليمية في البحر الأحمر، إضافة إلى مسألة الحرب في السودان إشارة مهمة إلى اصطفاف سعودي أكثر وضوحًا خلف مركزية سيادة السودان واستقلاله ووحدة أراضيه في أية جهود دبلوماسية مبذولة راهنة لمقاربة أزمته.

وجاء التحرك السعودي فيما تواجه الإمارات اتهامات دولية متسارعة بالانخراط السلبي في الأزمة السودانية، وتفادت أبوظبي بصعوبة بالغة، وربما بأعباء دبلوماسية لاحقة، عددا من هذه الاتهامات من قبل أطراف مثل الاتحاد الأوروبي، فيما فشلت بشكل واضح في حملة لاهثة لتفنيد هذه الاتهامات سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية، أم عبر منصات التواصل الاجتماعي أم عبر “أصوات أكاديمية وبحثية”، حاولت بحدة إعادة تقديم رواية أبوظبي للحرب الدائرة في السودان، وأن دورها يؤكد على محاربة الإرهاب والإسلام السياسي.

وهكذا جاءت تحركات الرياض لتدعم البرهان ومؤسسات الدولة السودانية (وهو موقف أعلنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشكل أكثر وضوحًا في بيان الخطوط الحمراء الشهير قبل أيام)، وفي توقيت تعيد فيه الإمارات تشكيل ديناميات تدخلها التخريبي والخشن في الأزمة عبر عدد من دول جوار السودان.

وفي تجاوز لموقف الإمارات التصادمي تجاه البرهان ومؤسسات الدولة السودانية، استضافت الرياض محادثات مباشرة بين البرهان ومسعد بولس مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لشؤون إفريقيا. وتمت مناقشة خطة أمريكية سعودية من ثلاثة نقاط، تتضمن وضع نهاية للحرب وتيسير المساعدات الإنسانية ونقل السلطة للمدنيين، أو ما وصفته الدبلوماسية السعودية بالبناء على المبادرة الأمريكية- السعودية (منصة جدة) التي أطلقت بعد أسابيع من الحرب في إبريل 2023.

 وما استجد في الموقف الراهن هو إعلان البرهان دراسته للمقترح والرد عليه، ما يعني وجود مساحة للقبول المبدئي، مع توقع الاهتمام بتفصيل خطوات الخطة، بحيث تتضمن آليات مُرضية لمجلس السيادة وضمانات بسلاسة المرحلة الانتقالية (دون إقصاء لقوى بعينها إلا في ظل توافق ديمقراطي سوداني).

في المحصلة، تبدو تناقضات السياسات الإماراتية والسعودية في ملفات اليمن والبحر الأحمر والسودان معبرة عن أوضاع تنافس أو صراع، ومحاولات الإمارات قيادة العمل العسكري والسياسي في الإقليم بغض النظر عن اعتبارات تقليدية مثل، سيادة الدول أو أمنها القومي أو مقتضيات مفترضة بوجود مصالح عربية مشتركة، وذلك لصالح دور إماراتي بامتياز، يقوم على تجاوز هذه الاعتبارات، حتى في حالة دولة عربية خليجية مهمة بحجم السعودية ومصالحها في هذه الملفات.