في كتابه الأيقوني والفريد “كرة القدم بين الشمس والظل” استعرض الكاتب الأوروجوياني إدواردو جاليانو بِخفةٍ ظل بالغةٍ تاريخا من الظلال السياسية تحت شمس كرة القدم والمونديال عبر نُسخهِ المختلفة. وربما لو كان جاليانو على قيد الحياة حتى الآن لأفرد كتابًا خاصًا لنسخة 2022 التي اختلطت فيها الرياضة بالسياسة كما لم تختلط من قبل. وألقت ظلالها بشكل غير مسبوق على تلك البطولة المقامة لأول مرة في بلد عربي.
وبينما انتقل جاليانو بسلاسة من نسخة إلى أخرى مستعرضًا أبرز الأحداث السياسية قبل كل بطولة بنبرة ساخرة ذكية. أتبعها بأبرز الأحداث والظواهر الكروية في كل مونديال. فإن محاولة محاكاة أسلوبه قبل بدء كأس العالم 2022 قد تبدو عصيّة. لما تلاحق من أحداث هزت العالم بأكمله وغيّرت مساراته وتحالفاته وأبرزت في الصورة عالما جديدا يتشكّل لم تتضح ملامحه بعد.
اقرأ أيضًا: المونديال والمناخ.. هل نجحت قطر في تجنب “الأفيال البيضاء”؟
فمن جائحة كورونا والاتفاقات الإبراهيمية إلى الحرب الروسية الأوكرانية والصراع الأمريكي الصيني إلى أزمات اقتصادية ومناخية تهدد مستقبلنا خلال الأعوام المقبلة. ومن ثم لم تكن تلك الظلال بعيدةً عن الصورة في واحدة من أكثر بطولات المونديال جدلاً وانتقادًا وتشابكًا مع خيوط السياسة التي التفت حول الكأس الذهبية.
انتقادات حقوقية حادة تجاه حقوق العُمال والحريات الشخصية. مصالحة عربية تمهيدًا للمونديال. حديث عن تطبيع مُتنكر مع الإسرائيليين. مطالب أوكرانية باستبعاد إيران من البطولة لمعاونتها روسيا في الحرب. بحرية بريطانية وأخرى باكستانية وجنود أتراك وباكستانيون وطائرات مُسيّرة أمريكية لتأمين البطولة. وزيارات من أمير البلاد هنا وهناك أملاً في ألا تُفسد أجواء السياسة والحرب بطولته المنتظرة.
“أناشدكم جميعًا التفكير في وقف إطلاق نار مؤقت لمدة شهر واحد. أو على الأقل فتح بعض الممرات الإنسانية أو أي شيء يمكن أن يؤدي إلى استئناف الحوار كخطوة أولى نحو السلام”. لم تكن تلك كلمات أنطونيو جوتيريش -الأمين العام للأمم المتحدة- بل جياني إنفانتينو رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا). والتي طالب فيها بإيقاف إطلاق النار طوال مدة المونديال. ولم يكن هذا حديثه الأخير عن السياسة.
“نحن نعلم أن كرة القدم لا تعيش في فراغ. وندرك بنفس القدر أن هناك العديد من التحديات والصعوبات ذات الطبيعة السياسية في جميع أنحاء العالم. لكن من فضلكم لا تسمحوا لكرة القدم بالانجرار إلى كل معركة أيديولوجية أو سياسية موجودة”.
هكذا قال السويسري حاثًا المنتخبات المشاركة في البطولة على التركيز على كرة القدم وعدم السماح بجر الرياضة إلى “معارك” أيديولوجية أو سياسية. وذلك بعدما احتجت منتخبات مشاركة حول قضايا من بينها حقوق المثليين ومعاملة العمال المهاجرين.
والآن دعونا نضعكم في كل الأجواء السياسية الحارة. التي لم يُفلح معها إقامة كأس العالم في الشتاء لأولمرة لتخفيض درجات الحرارة.
حقوق العُمال والحريات تحت المجهر
تعرضت قطر لانتقادات حادة على عدد من الجبهات. ولا سيما بسبب معاملتها للعمال المهاجرين والقوانين المناهضة لمجتمع الميم والقيود المفروضة على حرية التعبير.
أعلن المنتخب الدنماركي نيته ارتداء قمصان عليها شعار الراعي بشكل “باهت”. لأنه “لا يريد أن يكون مرئيًا في البطولات التي تكلف الأرواح”.
ونشر منتخب أستراليا مقطع فيديو يثير مخاوف بشأن “معاناة” العمال المهاجرين وبشأن عدم قدرة أفراد مجتمع الميم القطريين على “حب الشخص الذي يختارونه”. يخطط ثمانية من الفرق الـ32 لارتداء شارة قوس قزح لدعم حقوق مجتمع الميم.
وأعلنت لندن أنها لن تقيم مناطق المشجعين أو العروض العامة للمباريات. كذلك باريس -موطن باريس سان جيرمان الذي ترعاه قطر- وهو ما فعلته العديد من المدن الفرنسية الأخرى.
ونقلت “بي بي سي” عن عمدة ليل وصفه لبطولة هذا العام بأنها “هراء من حيث حقوق الإنسان والبيئة والرياضة”.
في بريطانيا قال حزب العمال إنه قاطع كأس العالم. وسلطت الصحافة الأضواء على النواب الذين زاروا قطر في رحلات مجانية.
أما الخلاف الدبلوماسي الأكبر فتعلق بوزيرة الداخلية الألمانية -نانسي فيزر- التي قالت: “هناك معايير يجب الالتزام بها وسيكون من الأفضل عدم منح البطولات لمثل هذه الدول [مثل قطر]..”. وردًا على ذلك استدعت قطر السفير الألماني.
وفي بيان للرد قال أمير قطر تميم بن حمد: “منذ أن فزنا بشرف استضافة كأس العالم تعرضت قطر لحملة غير مسبوقة لم يواجهها أي بلد مضيف على الإطلاق. تعاملنا مع الأمر في البداية بحسن نية. بل واعتبرنا أن بعض الانتقادات كانت إيجابية ومفيدة. مما ساعدنا على تطوير الجوانب التي تحتاج إلى تطوير. لكن سرعان ما اتضح لنا أن الحملة مستمرة وتتوسع وتشمل التلفيق وازدواجية المعايير. حتى وصلت إلى مستوى من الضراوة أثارت الكثير من التساؤلات، للأسف، حول أسبابها ودوافعها”.
يقول باتريك وينتور -المحرر الدبلوماسي لصحيفة “جارديان” البريطانية (إحدى أبرز الصحف الغربية التي انتقدت ملف العُمال المهاجرين في قطر): “كل شخص لديه رأي الآن حول قطر وليس فقط في الغرب. في بعض وسائل التواصل الاجتماعي الصاخبة في الشرق الأوسط نما جو من الوحدة العربية الوطنية الغاضبة. بما في ذلك في دول الخليج التي كانت على خلاف مع قطر منذ عقد من الزمان”.
وأشار إلى أن هذا الغضب لا يبدو مصطنعًا. ففي إحدى المباريات الأخيرة في العراق رفع مشجعون من نادي القوات الجوية لافتة كتب عليها: “نحن نقف مع قطر 2022”. بل إن اجتماع جامعة الدول العربية في الجزائر العاصمة تضمن في بيانه الختامي رفض “حملات التشويه والتشكيك الخبيثة التي تؤثر في البطولة”.
ويركز “معهد الدراسات السياسية الدولية” -الصادر من إيطاليا- على جانب آخر متعلق بكبرى الشركات الغربية التي استفادت بعدد من الصفقات المربحة قبل المونديال. بدءًا من الشركات الاستشارية إلى شركات الهندسة المعمارية وتكتلات التكنولوجيا.
“القضية الرئيسية التي يجب مراقبتها مع المونديال هي ما إذا كانت الشركات التي تتخذ من الغرب مقرًا لها ستستمر في التهرب من أي لوم خطير لجني أرباح مالية على حساب العمالة المستغلة. أو ما إذا كانت وسائل الإعلام الغربية وصانعي السياسات سيكونون راضين عن عدم الإصلاح وإلقاء اللوم على الحكومات”.
كأس العالم كمُحفّز للتغيير
يلفت الباحثان في شؤون الشرق الأوسط جوزي بيلايو وحمد عباس -على موقع مركز “المجلس الأطلنطي” البحثي- إلى أن التغطية الغربية لمونديال قطر 2022 كانت منحازة وقائمة إلى حد ما على معايير مزدوجة. لكنهما يشيران في الوقت نفسه إلى أنه يمكن لنظام حوكمة رياضي جيد مع معايير أخلاقية محددة أن يجعل كأس العالم “حافزًا لإحداث تغيير اجتماعي وبشري تحولي حقيقي”.
وقد كان ذلك ما حدث في حقوق العُمال. فالانتقادات الحقوقية أجبرت قطر عام 2018 على إصلاحات أخيرًا لحقوقهم والسماح لهم بمغادرة البلاد دون الحصول أولاً على تصريح خروج. وفي عام 2020 سُمح للعمال بتغيير وظائفهم قبل انتهاء العقد دون إذن صاحب العمل. ما أدى إلى إلغاء نظام الكفالة الاستغلالي بحسب “وينتور”. كما عُيّن الرئيس السابق للجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر وزيرًا جديدًا للعمل.
في تقرير نُشر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي قالت منظمة العمل الدولية إنه تمت الموافقة على أكثر من 348 طلبًا من أصل 450 لتغيير الوظائف في الفترة بين نوفمبر/تشرين الثاني 2020 ونهاية أغسطس/آب 2022. ومع ذلك أقرت المنظمة بأن “عددًا من أصحاب العمل عديمي الضمير قد انتقموا من العمال الذين تقدموا بطلبات للتغيير الوظائف. واتخذ هذا شكل تهديدات بالترحيل أو إلغاء تصاريح الإقامة أو توجيه تهم الفرار”.
“إجراءات قطر لتحسين سجلها أثارت نقاشًا حول الدور الذي يمكن أن تلعبه كرة القدم لدعم القيم الليبرالية على المستوى الدولي. وحول ما يدفع جهود اتحادات الكرة -التي تبشر بها كثيرًا- لتعزيز مجتمعات أكثر مساواة. وحول التناقضات التي تواجهها الكرة عندما تحاول تعزيز تغييرات اجتماعية عميقة”. يقول فرانشيسكو سيكاردي -باحث أول بمركز “كارنيجي أوروبا“.
لكن مستشار في القيادة القطرية يقول للجارديان: “نشعر أن الأهداف تتغير باستمرار. نشعر أننا نتعامل مع النقد بحسن نية ومن ثم يتم التعامل مع كل ما نفعله باعتباره إما غير كافٍ. وإما أن القافلة تنتقل إلى قضايا أخرى مثل المثلية الجنسية التي تكون أقل قابلية للتفاوض بالنسبة لمجتمع محافظ “.
في ظل هذه الثقافة -بحسب سيكاردي- يعتبر السلوك المثلي جريمة يعاقب عليها بالسجن لمدة تصل إلى سبع سنوات. “يرى البعض أنه من غير الأخلاقي إحضار كأس العالم إلى بلد لا تُحترم فيه الحقوق الأساسية. بينما يرحب آخرون بالاهتمام الذي تجلبه البطولة لهذه القضايا الاجتماعية ويجادلون بأن التغييرات الثقافية بهذا الحجم تستغرق أجيالاً لتترسخ”.
ويضيف: “في حين أنه قد يكون غير واضح ما إذا كنا ندخل حقبة جديدة من الأخلاق في الرياضة. إلا أن الجدل حول الرياضة والتغيير المجتمعي وحقوق الإنسان نادرًا ما كان أكثر حيوية. وحاليًا يظل هذا أجمل انتصار للعبة”.
يتفق دانييل رايش -المتخصص في السياسة الرياضية- والذي يقود مبادرة بحث حول مونديال 2022 في جامعة جورجتاون. إذ يرى أن “كأس العالم محرك للتغيير السياسي في قطر لأنها تريد اعتراف المجتمع الدولي بها”.
وأضاف: “استغرق الأمر بعض الوقت حتى أدركت النخبة القطرية أنهم لا يستطيعون تحقيق مكاسب في القوة الناعمة عندما لا يتطرقون إلى قضية حقوق الإنسان. إنهم لا يغيرون قوانين العمل لأن السكان المحليين يريدون تغييرها. إنهم يغيرونها لأن الجمهور الغربي ناقش بشكل نقدي على مدى سنوات عديدة معاملة العمال المهاجرين”.
المونديال كفرصة لإسرائيل
في سياق اتفاقات تطبيعية وصعود لليمين المتطرف ترى إسرائيل في البطولة وسيلة لمزيد من الاندماج في الشرق الأوسط بعد إقامة علاقات مع اثنين من جيران قطر في الخليج العربي -بحسب “أسوشيتد برس“. فمن المتوقع أن يسافر آلاف الإسرائيليين إلى الدوحة في رحلات مباشرة غير مسبوقة.
قد يبدو احتمال التطبيع الإسرائيلي مع قطر التي تساعد في تمويل حركة حماس في قطاع غزة بعيد المنال. بعد أن أغلقت الدوحة مكتبًا تجاريًا إسرائيليًا عام 2008. لكن خبراء يقولون للوكالة الأمريكية إن التدفق غير المسبوق لآلاف المشجعين الإسرائيليين إلى الدولة الإسلامية المحافظة يمكن أن يعزز طموحات إسرائيل لتصبح مجرد دولة أخرى في المنطقة.
وقد وعدت قطر -في اتفاق قبل أيام- بالسماح للمشجعين في إسرائيل والأراضي الفلسطينية بالسفر مباشرة إلى الدوحة.
ويشمل ذلك سكان الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر. وقال إيمانويل نافون -الزميل البارز في معهد القدس للدراسات الاستراتيجية: “الإشارة إلى أن قطر تسمح للإسرائيليين بالسفر إلى هناك للمشاركة في كأس العالم هي مؤشر على استعدادهم لتليين موقفهم تجاه إسرائيل”.
لكن أصوات قطرية أو داعمة لقطر ردت بأن هذه الرحلات تأتي التزاما بمواثيق الفيفا ومتطلبات الاستضافة. وبرروا بأن الطيران سيكون تابعًا لشركة قبرصية وأن أعداد الفلسطينيين ستكون أكبر من الإسرائيليين.
وفي خطوة أخرى ستنشئ إسرائيل خدمة قنصلية مؤقتة للمواطنين في البطولة رغم عدم وجود علاقات دبلوماسية بين الدولتين. ولتجنب أي انتقادات عنيفة من الفلسطينيين شددت قطر على أن “موقفها من التطبيع (مع إسرائيل) لم يتغير”.
بينما انتهز العديد من الإسرائيليين البطولة كفرصة نادرة لزيارة الإمارة. إذ قال جيل زيلبر -مشجع يعيش في تل أبيب ويحمل تذاكر كأس العالم: “هناك مرة واحدة فقط يمكننا الذهاب إليها. سمعت أنهم (قطر) يدعمون حماس لكنني لست خائفًا”.
هل نشاهد احتجاجات إيرانية؟
تشتعل الأوضاع في إيران في أعقاب الاحتجاجات التي اندلعت منتصف سبتمبر/أيلول على وفاة الشابة ماهسا أميني. والتي لا تزال مستمرة. وتحولت تلك الاحتجاجات إلى واحدة من أكثر التحديات جرأة لرجال الملالي منذ الثورة الإسلامية عام 1979. وسعت قوات الأمن إلى قمع المعارضة فقتلت أكثر من 270 شخصًا وفقًا لجماعات حقوقية.
نشطاء إيرانيون طالبوا فيفا باستبعاد إيران من كأس العالم. مستشهدين بالقمع العنيف الذي تمارسه البلاد والقيود المفروضة على النساء في الملاعب. كما تقدم أكبر نادٍ في أوكرانيا بطلب مماثل بشأن دعم إيران العسكري لروسيا في حربها على أوكرانيا.
لا تزال إيران تنافس ومواجهتها مع الولايات المتحدة في تاسع أيام البطولة قد تكون واحدة من أكثر مباريات البطولة لفتًا للأنظار.
“ما سيحدث على أرض الملعب -سواء ارتدى أعضاء الفريق شارات تضامن مع الاحتجاجات كما فعلوا خلال الحركة الخضراء عام 2009 أو صافحوا خصومهم الأمريكيين كما فعلوا عام 1998- هو سؤال محفوف بالمخاطر” تشير “أسوشييتد برس”.
وبالفعل دعا معارضون في الخارج إلى الاحتجاج خلال المباريات. كما تحدث لاعبون إيرانيون عن دعمهم للحركة الاحتجاجية. وفي منشور على إنستجرام -تم حذفه لاحقًا- قال المهاجم الدولي سردار آزمون إنه سيضحي بمكانه في البطولة من أجل “شعرة واحدة على رؤوس الإيرانيات”.
وفي تحدٍ واضح لم يحتفل آزمون عندما سجل في مباراة في فيينا أمام السنغال أواخر سبتمبر/أيلول. كما كان النجوم السابقون مثل علي دائي وعلي كريمي أكثر انتقادًا ودعمًا للاحتجاجات. تقول أليكس فاتانكا -الزميل البارز في معهد الشرق الأوسط بواشنطن: “لطالما وقف لاعبو كرة القدم في إيران إلى جانب الشعب”.
عندما تنافست المتسلقة الإيرانية إلناز ركابي في كوريا الجنوبية دون أن ترتدي الحجاب الإلزامي أصبحت بمثابة عمود إنارة لحركة الاحتجاج الأخيرة. يتوقع البعض وقوع حادث مماثل في كأس العالم. وقد ذكرت وكالة أنباء إيرنا الحكومية أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي كلف وزير خارجيته “بتوقع المشكلات المحتملة ومنعها”.
وقال الخبير الإيراني مهرزاد بروجردي: “بالنظر إلى القرب الجغرافي من إيران وحقيقة أن فضح النظام أصبح مهمًا للغاية فمن المحتمل أن نرى الإيرانيين والمغتربين يستغلون كأس العالم كمشهد للتعبير عن احتجاجهم”.
القوة السياسية للرياضة تختمر الآن في الدوحة. وربما نشاهد البطولة الأكثر تسييسًا على مر التاريخ. المؤكد أن هناك شيئا واحدا واضحا: كرة القدم هي سياسة الآن. وأي فكرة عن عدم خلط السياسة بالرياضة قد تم التخلص منها أخيرًا.