منذ اندلاع الصراع العسكري في السودان منتصف إبريل/ نيسان الماضي، كان لافتًا بروز الدور السعودي في الأزمة باعتباره محايدًا نسبيًا بين طرفي المواجهة. فبينما عُدت مصر داعمةً لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، والإمارات داعمةً لقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، استطاعت المملكة الوقوف على مسافة واحدة، ما مكنها من لعب دور الوساطة في محاولة لوقف إطلاق النار واستئناف العملية السياسية.
برزت المملكة كقوة إقليمية لا غنى عنها، وأخذت زمام المبادرة في عمليات المساعدة الإنسانية والإغاثية بالسودان. وقد مكنها هذا الدور من إعادة رسم صورتها الدبلوماسية كعامل تهدئة في المنطقة، بعدما كان يُنظر إليها كأحد المحفزات الرئيسية للاضطرابات والتوترات.
في المشهد الأوسع، فإن الرياض تمضي قدمًا لإعادة صياغة الوضع الجيو سياسي في الشرق الأوسط، وإظهار نفسها كقائدة للعالم العربي. وقد رسمت هذا المسار عبر تحركاتها لاستعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وما تبعها من تهدئة في اليمن وإعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية.
لا ينفك المشهد السوداني عن كونه جزءًا من هذا التوجه. وفي ذات الوقت فإن المصالح السعودية في استقرار السودان وقلقها من طول أمد الصراع، كان دافعًا للوساطة. إذ أن موقع السودان الجغرافي الاستراتيجي يجعلها مهمة للانخراط السعودي في إفريقيا، ولا سيما منطقتي القرن الإفريقي والبحر الأحمر، الموقع الذي يحظى باهتمام بالغ في ظل خطط التنويع الاقتصادي للمملكة، ومشروع مدينة نيوم.
تاريخ العلاقات السعودية السودانية: دعم وتقلبات
منذ السبعينيات، قدمت المملكة الكثير من الدعم المالي للأنظمة العسكرية في السودان، درءًا لتوغل النفوذ السوفيتي “خلال وجود الدولة السوفيتية” باعتبار الخرطوم حاجزًا أمام التمدد الشيوعي في غرب إفريقيا، ونظرًا لتجاورها مع ليبيا وإثيوبيا اللتين اصطفتا إلى جوار الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة.
ومنذ عام 1975، قدمت المملكة ما مجموعه 1.6 مليار دولار أمريكي كمساعدات إنمائية رسمية إلى السودان، لتصبح أكبر متلق للمساعدات الخارجية الخليجية في القرن الإفريقي. فيما قُدرت الاستثمارات السعودية خلال تلك الفترة بمليارات الدولارات.
لكن مع عام 1989 وقدوم حكم الرئيس عمر البشير ونظام “الإنقاذ الإسلامي”، الذي استمر لـ30 عامًا، باتت العلاقات محدودة بسبب خلفيته الإسلامية وعلاقاته الوثيقة مع إيران.
طوال التسعينيات كانت الروابط الاقتصادية “نائمة نسبيًا”، بحسب “ذي إيكونوميست“. ولكن عقب أزمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في عام 2008، سارع السعوديون مجددا إلى شراء المزيد من الأراضي الزراعية في السودان كوسيلة تحوط من انعدام الأمن الغذائي.
ومع انفصال جنوب السودان في عام 2011، فقد السودان احتياطيات النفط التي كانت تمثل أكثر من نصف إيراداته، مما أدى إلى تغيير نظرته الاقتصادية بشكل جذري والسعي وراء مصادر جديدة للدعم المالي.
ومن أجل استمالة السعودية والإمارات، خفض السودان علنًا علاقته بإيران عام 2014 وانضم إلى التدخل العسكري بقيادة السعودية في اليمن في العام التالي.
وهنا، عززت الرياض مساعداتها، إذ تلقى البنك المركزي السوداني وديعة بمليار دولار، بالإضافة إلى اتفاق لتزويد الخرطوم بالنفط لمدة خمس سنوات. وبلغت مساعدات التنمية السعودية بين عامي 2015 و2020، نحو 1.5 مليار دولار.
أدى تحول البشير بعيدًا عن حلفاء السودان التقليديين إلى تفاقم الانقسامات داخل دائرته الحاكمة المنقسمة بالأساس، ما أضعف مكانته داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم. وهو ركيزة أساسية لنظامه، إلى جانب الجيش، والمخابرات، والميليشيات شبه العسكرية المعروفة باسم قوات الدعم السريع.
من المحتمل أن يكون هذا الضغط الداخلي هو السبب في قرار البشير في 2017 بالبقاء على الحياد في أزمة قطر، ما أثار غضب الإمارات والسعودية. لهذا وانتقامًا من موقفه، أوقفت الرياض دفع رواتب الجنود السودانيين.
ولكن البشير تلقى بعدها من قطر دعمًا بـ2 مليار دولار. “أقنعت لعبة التوازن هذه السعودية والإمارات بأن البشير غير موثوق ويجب استبداله”، بحسب ما تشير دراسة لمشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط pomeps).)
وبعدما قلصت السعودية من دعمها المالي للبشير، أدى ذلك لإجباره على قطع الدعم عن السلع الحيوية في أواخر عام 2018، ليواجه انتفاضة جماهيرية انتهت بإطاحة الجيش السوداني به من السلطة في إبريل/ نيسان 2019 بدعم من السعودية والإمارات ومصر.
دعم الحكم العسكري لمنع التحول الديمقراطي
مع إطاحة الجيش بالبشير -إثر ضغوط الشارع الثائر- دعمت السعودية والإمارات المجلس العسكري الحاكم مباشرة. وأعلن البلدان بسرعة عن حزمة مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار للسودان.
بعد التنسيق لانتشار القوات السودانية في اليمن والعمل جنبًا إلى جنب مع المسئولين الخليجيين، كان عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس الجديد، يعتبر شريكًا جديرًا بالثقة. بينما كان نائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي”، تعمل قواته في جنوب اليمن في 2015.
“إن الروابط بين الكفيل والعميل التي تطورت بين المسئولين السودانيين والخليجيين، لا سيما أثناء التدخل في اليمن، أكسبت السعودية والإمارات أهميةً استراتيجيةً فريدة في الصراع على السلطة”، يقول عمر كريم، في مساهمته على موقع “معهد دول الخليج العربية في واشنطن”.
شجعت المملكة رفقة الإمارات والجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى مثل تشاد وجنوب السودان ومصر وإثيوبيا وإريتريا، المجلس العسكري الانتقالي على التمسك بالسلطة.
وتقول دراسة pomeps : “مدعومًا بالغطاء الدبلوماسي والمساعدات العسكرية، بالإضافة إلى النقود والوقود والقمح، ظل المجلس العسكري الانتقالي متصلبًا ولعب على عنصر الوقت في المفاوضات، رافضًا المطلب المركزي لقوى الحرية والتغيير المدنية بأن يكون مجلس السيادة الجديد بمثابة الرئيس بشكل جماعي ويهيمن عليه أغلبية المعينين المدنيين”.
لكن مع تفاقم الوضع، والضغوطات الدولية إثر فض اعتصام القيادة العامة -والذي تم بعد زيارة حميدتي لكل من السعودية والإمارات ومصر- دفع الحدث الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بعد أسابيع من السلبية، للضغط على الإمارات والسعودية -اللتين ترددت أنباء عن قلقهما من أن حميدتي قد ذهب بعيدًا وكان يتسبب في عدم الاستقرار- من أجل استخدام نفوذهما على المجلس العسكري الانتقالي للدفع من أجل التوصل إلى اتفاق مع المعارضة.
حينها، بدأت المملكة في الدعوة علنًا إلى “الحوار”، والعمل خلف الكواليس جنبًا إلى جنب مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة للتوسط في صفقة، أفضت في النهاية لاتفاق تقاسم السلطة لفترة انتقالية.
بعد التوقيع على الإعلان الدستوري، الذي وضع خارطة طريق لعقد مؤتمر دستوري وانتخابات، قدمت الإمارات والسعودية الدعم للحكومة الجديدة، ووجهتا 200 مليون دولار شهريًا دعمًا نقديًا وسلعًا للحكومة للنصف الثاني من عام 2019. واستخدمت المملكة نفوذها المالي لتشجيع الدائنين، من شركاء البنك الدولي، للموافقة على تخفيف ديون السودان في مؤتمر باريس، 2021.
لكن “مشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط” يرى أنه منذ أواخر عام 2019 “بدا أن السعوديين قد تراجعوا، تاركين إدارة ملف السودان للإماراتيين. وعلى الرغم من سياستها الرسمية الداعمة لعملية الانتقال الديمقراطي، فقد ناورت الإمارات لتقويض الجناح المدني للحكومة من خلال دعم الجنرالات”.
وفي أعقاب انقلاب البرهان وحميدتي على المكوّن المدني في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، واتضاح أنه أضعف من الانفراد بالسلطة في ظل الضغوط الدولية، عادت السعودية للانخراط من جديد بقوة في العملية السياسية تحت مظلة “الآلية الرباعية” (رفقة الإمارات والولايات المتحدة والمملكة المتحدة)، التي أسهمت في التوقيع على “الاتفاق الإطاري” الذي كان أحد عوامل تمهيد الحرب بين البرهان وحميدتي.
يشير “متندى الخليج الدولي” ومقره واشنطن، إلى المخاوف الخليجية من أن التحول الديمقراطي يقوّض من قيادتهم الأكثر استبدادًا. لكن في حين أن الديمقراطية في السودان يمكن أن تؤدي إلى نتائج سلبية لدول الخليج على المدى القصير، إلا أنها ضمان الاستقرار على المدى الطويل.
ظهر ذلك خلال الصراع الحالي، الذي خلق نقطة ثانية من عدم الاستقرار في قلب البحر الأحمر مثلما كان الوضع في اليمن التي تحاول السعودية الآن التوصل لاتفاق مع جماعة الحوثي من أجل التهدئة.
الاستثمارات كوسيلة للنفوذ وجذب الأتباع ومنافسة الإمارات
مع اتجاه المملكة نحو خطط التنويع الاقتصادي في عالم ما بعد النفط ضمن رؤيتها 2030، تزايدت أهمية السودان ومنطقة القرن الإفريقي في حساباتها. وتجسد ذلك في تعيين الدبلوماسي المخضرم أحمد بن عبد العزيز قطان، الذي عمل سفيرًا للسعودية في مصر، وزيرًا للدولة للشؤون الإفريقية.
وهي خطوة أكدت مدى تنامي أهمية إفريقيا بالنسبة للقيادة السياسية في الرياض. إذ لعب قطان، على سبيل المثال، دورًا مهمًا في جهود الوساطة بالسودان.
تزايدت الاستثمارات السعودية في السودان، بحسب دراسة حديثة، وبلغت قيمة المشاريع المشتركة خلال العقدين الماضيين 35.7 مليار دولار منها مشاريع جارية تقدر بنحو 15 مليار دولار.
أطلقت السعودية استثمارات زراعية لحماية أمنها الغذائي مع اتخاذ “خطوات تكتيكية لتقليل نفوذ الإمارات على الحكومة السودانية”، وفق تعبير صحيفة African Arguments. إذ اختلفت مصلحة البلدين مع إعطاء المملكة الأولوية لمصالحها المرتبطة برؤية 2030 على تحالفها مع الإمارات.
وبسبب موقع السودان الجغرافي الاستراتيجي بين البحر الأحمر وشرق وغرب إفريقيا -وهي مناطق تعمل الإمارات على توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي فيها- تنامي التنافس بين البلدين.
نتيجة لذلك، وفي خطوة أظهرت النفوذ السعودي المتزايد على النخبة السياسية الجديدة في السودان، زار هادي إدريس، عضو مجلس السيادة السوداني ورئيس الجبهة الثورية، المملكة في 2021 حيث التقى بمسئولين سعوديين. وكانت نتيجة الاجتماعات اتفاق الخرطوم والرياض على تأسيس شركة مشتركة لتنسيق استثمارات بقيمة 3 مليارات دولار.
كما شجع الدعم السعودي الشركات الزراعية السعودية، مثل مجموعة الراجحي، على زيادة الاستثمار في السودان. وعقد مسئولوها اجتماعات منتصف 2021 مع ميني أركو ميناوي، حاكم دارفور وزعيم حركة تحرير السودان، بهدف تشجيع استثماراتهم في منطقة دارفور.
بناءً على هذه التطورات، عقد كل من جبريل إبراهيم، زعيم حركة العدل والمساواة ووزير المالية، والهادي محمد، وزير الاستثمار والتعاون الدولي، اتفاقًا مع صندوق الثروة السيادية بالمملكة و40 شركة سعودية أخرى لفتح 15 فرعًا للبنوك السعودية في السودان، وتشكيل لجنة وزارية بهدف تسهيل المزيد من الاستثمارات، التي وصلت إلى 26.5 مليار دولار في الزراعة وحدها.
يقول توبياس سيمون، الخبير في شؤون القرن الإفريقي، إن السعودية حافظت على اهتمامها بالسودان لفترة طويلة، و”تمكنت دائمًا من شراء أتباع هناك”.
ولتعزيز مصلحتها بتوسيع السياحة على ساحل البحر الأحمر، ضاعفت السعودية نفوذها في ولاية البحر الأحمر المضطربة من خلال الاستثمارات والمشاريع التنموية. إذ يمتد الساحل السوداني المتاخم للسعودية على مسافة 750 كيلومترًا. كما مثلت هذه الاستثمارات والمشاريع رغبةً في منافسة الإمارات على السيطرة على مواني البحر الأحمر.
جهود الإغاثة والوساطة للحفاظ على المصالح
بعد اندلاع المواجهات الأخيرة في السودان، تخشى المملكة من أن الصراع الطويل وانهيار الدولة السودانية سيهدد الأمن الإقليمي ويقوّض رؤيتها لتطوير ساحلها على البحر الأحمر بالإضافة لاستثماراتها الضخمة. ومثل المملكة، فإن الولايات المتحدة قلقة بشأن التأثير طويل المدى للصراع السوداني على أمن البحر الأحمر، وإمكانية تنامي النفوذ الروسي.
أدى ذلك بالبلدين إلى اقتراح مبادرة مشتركة لتهدئة الموقف والترتيب لحوار بين المتصارعين. لذلك، “يبدو أن المملكة ستكون الحليف السياسي الأمامي للولايات المتحدة في ملف السودان، مما يظهر مرة أخرى توافقًا جيو سياسيًا حاسمًا”، طبقًا لـ”معهد دول الخليج العربية في واشنطن“.
وترى آنا جاكوبس، كبيرة محللي الخليج في مجموعة الأزمات الدولية، أن “هناك سياسة خارجية جديدة تجري هنا.. إذ تسعى المملكة إلى فرض نفسها أكثر فأكثر على المسرح الدولي من خلال الوساطة ورفع مكانتها الدبلوماسية”. وأضافت “السياسة الخارجية الجديدة للرياض أكثر استقلالية وتعطي الأولوية للمصالح السعودية”.
أما على الجانب الإغاثي، فقد لعبت المملكة دورًا رئيسيًا في إجلاء آلاف المواطنين الأجانب. وقال كاميرون هدسون من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية “لقد تأثرت بشدة بكفاءة عملهم للمساعدة في إجلاء الناس ووضع أسطولهم البحري تحت تصرف الأشخاص الفارين”.
وأضاف “هذه فرصة لتلميع صورتهم على بُعد كيلومترات قليلة من اليمن، حيث ظهرت بعض أسوأ تصرفاتهم”، في إشارة إلى الحرب التي قتل وأصيب فيها آلاف المدنيين في غارات جوية شنّها تحالف عسكري تقوده السعودية منذ 2015.
فيما رأى المحلل السعودي، عزيز الغشيان، أن الرياض تبدو عازمة على الحصول على هذا النوع من جهود النوايا الحسنة التي اكتسبتها قطر قبل عامين عندما رحّبت بعشرات الآلاف من المدنيين الفارين من حركة طالبان في أفغانستان.
يؤمن السفير البريطاني السابق لدى السعودية والسودان، وليام باتي، بأن قرب المملكة الجغرافي من السودان، فضلًا عن اتصالاتها مع الفصائل المتحاربة في الصراع، يضعها في وضع مثالي للتعامل مع الأزمة الإنسانية الذي سببها الوضع الراهن، فضلًا عن القيام بدور الوسيط.
ويضيف “هناك صراع واضح على السلطة في السودان حيث يتقاتل فصيلان عسكريان من أجل السيطرة، وإذا كان من أحد قادر على الضغط عليهما، فلا شك أن للسعوديين دورا يلعبونه.. إذا اشترك السعوديون، وكذلك الإماراتيون والمصريون، في محادثات السلام، فقد يكون من الممكن ممارسة بعض التأثير على الأطراف المتحاربة”.
لكن كميل لونز، الباحثة المشاركة في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، تعتقد أن المشاركة الخليجية في القرن الإفريقي كانت “عملية تعلم واجهت انتكاسات وتعديلات منتظمة”. وفي حين أنها حققت درجة من النفوذ، فإنها تفتقر إلى النفوذ بشكل أساسي للتأثير على الحسابات الاستراتيجية”.