إن توجيه ضربة لإيران من شأنه، أن يزيد من حالة عدم اليقين في الشرق الأوسط بشكل كبير، مما يساهم في خلق مشهد جيو سياسي معقد ومتقلب.
العملية العسكرية الإسرائيلية، التي أطلق عليها اسم “الأسد الصاعد”، وهو ما يمثل مستوى جديدًا في المواجهة بين إسرائيل وإيران. وقد أدى هذا التصعيد إلى رد فعل سريع من جانب إيران بهجمات بطائرات بدون طيار وصواريخ باليستية. لا يوجد أمام إيران إلا المزيد من الانتقام القوي لاستعادة الردع وحفظ ماء الوجه، مما قد يؤدي إلى خلق دورة مستمرة وغير متوقعة من التصعيد العنيف. إن هذه المواجهة العسكرية المباشرة تزيد بشكل كبير من المخاطر التي تهدد الاستقرار الإقليمي.
في حين تعلن إسرائيل، أن هدفها الأساسي هو تدمير قدرة إيران على إنتاج الأسلحة النووية، يتساءل العديد من المحللين، عما إذا كانت إسرائيل وحدها قادرة على القضاء على البرنامج بشكل فعال، وخاصة المنشآت المدفونة على عمق كبير، دون الحاجة إلى أسلحة أمريكية أكثر قوة.
ومن المفارقات، أن هذه الضربات قد تجبر إيران على الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، والسعي بقوة إلى امتلاك الأسلحة النووية، مما يؤدي إلى “سيناريو كوريا الشمالية”، حيث تسعى إيران إلى الحصول على رادع نووي من باب التحدي. لقد قامت إيران بالفعل بتخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 60٪، وأعلنت عن مواقع تخصيب جديدة تحت الأرض، مما أدى إلى تكثيف المخاوف بشأن قدرتها النووية.
يتفق الخبراء عمومًا، على أن إسرائيل وحدها لا تستطيع القضاء تمامًا على المنشآت النووية الإيرانية المدفونة على عمق كبير، مثل فوردو، دون استخدام ذخائر أمريكية أكثر قوة لتدمير المخابئ. قد تؤدي الضربات إلى تأخير البرنامج لعدة أشهر أو بضع سنوات فقط.
لقد أدت الضربات الإسرائيلية إلى تعريض المفاوضات النووية الجارية بين الولايات المتحدة وإيران للخطر بشكل خطير، والتي كانت هشة بالفعل، والتي كان من المقرر أن تستأنف بعد أيام من الهجوم. وهذا يجعل التوصل إلى حل دبلوماسي أكثر صعوبة بشكل كبير. على الرغم، من أن الولايات المتحدة تنفي رسميًا تورطها، إلا أن العديد من المحللين يعتقدون، أنها كانت على علم بالضربات أو دعمتها ضمنيًا، مما قد يدفع إيران إلى افتراض درجة ما من التواطؤ الأمريكي. إن هذا الموقف الأمريكي الغامض يعقد جهودها الدبلوماسية، ويخاطر بجر القوات الأمريكية إلى صراع إقليمي أوسع، إذا استهدفت إيران المصالح الأمريكية.
أعربت دول الخليج عن قلقها العميق، وأدانت الهجمات الإسرائيلية، خوفًا من أن يتم جرها إلى الصراع. إنهم يعطون الأولوية للحلول الدبلوماسية والاستقرار الإقليمي لحماية مشاريع التنمية الاقتصادية المحلية الطموحة.
لقد أدى الصراع إلى تغيير تصورات التهديد الإقليمي، حيث يُنظر إلى إسرائيل الآن بشكل متزايد، على أنها القوة الإقليمية المهيمنة، مما قد يؤدي إلى تحالفات جديدة، تتركز حول إسرائيل. إن هذا السيناريو يعقد سياساتهم الخارجية، حيث يتعين عليهم الموازنة بين المصالح الاستراتيجية والمشاعر العامة المحلية القوية ضد وحشية إسرائيل.
تهدف الضربات إلى زعزعة استقرار النظام الإيراني من خلال قطع رأس قيادته العسكرية والنووية. في حين يُقيّم النظام الإيراني، بأنه مرن وقادر على القمع الداخلي، فإن الهجمات إلى جانب الضغوط الاقتصادية القائمة والسخط الشعبي، قد تخلق بيئة محلية متقلبة.
في إسرائيل، يتفاقم الصراع المطول في غزة، والضغوط الاقتصادية، والانقسامات السياسية العميقة الجذور؛ بسبب التصعيد الإقليمي المستمر، مما يساهم في حالة عدم اليقين الداخلي، فيما يتعلق بالقيادة والاستقرار على المدى الطويل.
عمّقت الحرب الانقسامات الداخلية. يشعر العديد من الإسرائيليين بالإرهاق من الصراع المطول في غزة (أكثر من 600 يوم) وغياب استراتيجية خروج واضحة، أو عودة الرهائن المتبقين. يري المنتقدون، أن نتنياهو يطيل أمد الحرب من أجل البقاء السياسي الشخصي وتأخير محاكمته بتهم الفساد. لقد أدى الصراع إلى إجهاد الجاهزية العسكرية؛ بسبب تمديد فترة خدمة الاحتياط وزيادة الإنفاق الدفاعي، مما أثر على الوزارات المدنية. إن تصور إسرائيل كدولة منبوذة؛ بسبب أفعالها في غزة يتزايد، مما قد يؤدي إلى عزلة دولية وعقوبات اقتصادية. يرى البعض، أن التوسع الإسرائيلي “مقامرة مرعبة”، تهدد بعدم الاستقرار وإلحاق ضرر طويل الأمد بتحالفاتها.
يعد العدوان علي إيران جزءًا من استراتيجية إسرائيل الأوسع نطاقًا وطويلة الأمد؛ لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وتثبيت هيمنتها، وتفكيك “محور المقاومة”. ويشير هذا الهدف الطموح، إلى أن الصراع من غير المرجح أن يكون قصير الأجل، بل قد يتطور إلى صراع طويل الأمد متعدد الأبعاد، يتميز بعدم الاستقرار المستمر، بدلاً من التوصل إلى حل واضح. في حين تم إضعاف حماس وحزب الله بشكل كبير، إلا أنهما لم يُهزما بالكامل.
تزيد الضربات بشكل كبير من احتمال اندلاع حرب إقليمية أوسع، مع احتمال استهداف إيران للمصالح/ القواعد الأمريكية في المنطقة، أو اللجوء إلى استخدام الجماعات الشيعية المسلحة المنتشرة في المنطقة.
العواقب الاقتصادية وخيمة، بما في ذلك ارتفاع أسعار النفط والاضطرابات المحتملة في ممرات الشحن الحيوية مثل، مضيق هرمز.
باختصار، تؤدي الحرب على إيران إلى تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي بشكل كبير من خلال المواجهة العسكرية المباشرة، وخطر الانتشار النووي، وإعادة تشكيل ديناميكيات القوة نحو الهيمنة الإسرائيلية على حساب أدوار دول المنطقة، والتحديات الداخلية المستمرة لكل من إيران وإسرائيل، كل ذلك يؤدي إلى تعقيد الصراعات الجارية والجهود الدبلوماسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
كيف ستؤثر الحرب على إيران على الاستقرار الداخلي للأنظمة العربية؟
ومن المتوقع، أن يكون للحرب على إيران تأثيرات كبيرة على الاستقرار الداخلي للأنظمة العربية، وذلك في المقام الأول من خلال تشكيل الرأي العام، وتأجيج الاحتجاجات، وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، ومزيد من تصاعد التطرف العنيف.
لقد أثارت الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة، والتي سبقت وتزامنت مع الضربات على إيران، غضباً واسع النطاق في المجتمع الدولي، وخاصة فيما يتصل بالعنف ضد المدنيين الفلسطينيين وحصار المساعدات الإنسانية.
لقد شهد الرأي العام العربي تحولاً كبيراً، حيث وصفت أغلبية واضحة في الدول التي شملها استطلاعات الباروميتر العربي تصرفات إسرائيل في غزة، بأنها “إبادة جماعية” أو “مذبحة” أو “تطهير عرقي”. وقد أدى هذا الشعور القوي إلى تقييد السياسات الخارجية للأنظمة العربية .
تراجع الدعم للتطبيع مع إسرائيل، حتى في الدول التي وقعت سابقاً على اتفاقيات إبراهيم. انخفضت الثقة في الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة في الدول العربية بشكل كبير بعد 7 أكتوبر 2023، في حين تحسنت الآراء الإيجابية تجاه الصين.
كانت الاحتجاجات شائعة نسبيًا في جميع أنحاء المنطقة العربية على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية، مع مشاركة نسبة ملحوظة من البالغين في المظاهرات المتعلقة بغزة.
إن هذه الاحتجاجات، حتى لو لم تؤد إلى تغييرات جذرية في سياسات الحكومات الاستبدادية، فإنها تحد من خياراتها السياسية.
لا يزال الصراع المستمر في غزة، بما في ذلك الأزمة الإنسانية وعدم وجود خطة “لليوم التالي”، يشكل مصدرًا رئيسيًا لعدم الاستقرار والإدانة الدولية. يرى البعض، أن السياسات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية تهدف إلى التهجير الجماعي والسيطرة الكاملة، مما يؤدي إلى تأجيج الاستياء.
إن الصراع العسكري الممتد بين إسرائيل وإيران؛ يتسبب في أزمة اقتصادية واسعة النطاق، وخاصة من خلال تأثيره على طرق التجارة وأسعار النفط ونفسية المستثمرين.
إن هذا الضغط الاقتصادي إلى جانب استياء الرأي العام إزاء الافتقار إلى استراتيجية واضحة للتعامل مع غزة والتكلفة البشرية المستمرة، من شأنه أن يؤدي إلى تعميق الأزمات الداخلية داخل الأنظمة العربية.
في جوهرها، بينما قد تُصوَّر الحرب على إيران، على أنها تستهدف قدرات إيران النووية وقيادتها العسكرية، فإن هدفها الاستراتيجي الأوسع هو إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي، بما يعزز الهيمنة الإسرائيلية. تُغذّي هذه العملية في الوقت نفسه السخط العام والاحتجاجات داخل الدول العربية، حتى في الوقت الذي تُمارس فيه ضغوط استراتيجية على حكوماتها لتبني تحالف جديد، قد يُهمّش أدوارها وأولوياتها التقليدية.
التوترات الإقليمية المتجددة تضعف معنويات المستثمرين، مما قد يؤدي إلى انهيار أسواق الأسهم في دول الخليج، وإعاقة أجندات التنمية الاقتصادية الطموحة التي تعتمد على الاستقرار، كما يفاقم الأزمات الاقتصادية في الدول غير النفطية مثل، مصر وتونس.
مزيد من التطرف العنيف
إن مهاجمة إيران تشجع على المزيد من التطرف العنيف في الشرق الأوسط، من خلال العديد من الآليات المترابطة. في المقام الأول من خلال دفع إيران نحو تدابير أكثر تطرفًا، وتعزيز الفصائل المتشددة، وتقويض الحلول الدبلوماسية، وتأجيج عدم الاستقرار الإقليمي والسخط العام.
في حين تهدف الضربات إلى قطع رأس القيادة العسكرية والعلمية الإيرانية، إلا أن الهجمات الخارجية غالبًا ما تدفع الشعوب إلى التجمع حول عَلَمِها وقادتها، حتى لو لم تكن شعبية، مما يعوق جماعات المعارضة من استغلال لحظات الضعف.إن التعيين السريع لبدائل القادة المتوفين يشير إلى تصميم إيران على عدم الاستسلام بسهولة.
قد يشعر القادة الإيرانيون، وخاصة إذا اعتبروا الهجمات تهديدًا وجوديًا، بأنهم مضطرون للرد بقوة؛ لاستعادة الردع وإنقاذ ماء الوجه. يشمل هذا الانتقام إطلاق صواريخ باليستية، أو هجمات إلكترونية، أو استهداف مصالح الولايات المتحدة أو حلفائها في الخليج، أو تعطيل ممرات الشحن الحيوية مثل، مضيق هرمز.وهذا يخلق دورة مستمرة من التصعيد، مما يؤدي إلى صراع إقليمي مطول وغير متوقع، مما قد يجذب قوى كبرى أخرى مثل روسيا والصين.
إن الطبيعة الأحادية والعدوانية للضربات الإسرائيلية، تقوض مفهوم النظام الدولي القائم على القواعد. وقد تشجع على الاعتقاد، بأن القوة العسكرية وحدها هي التي تضمن الأمن، مما يؤدي إلى المزيد من العسكرة، وربما المزيد من الأعمال العدوانية من جانب مختلف الجهات الفاعلة في المنطقة.
في حين أن سقوط النظام الإيراني غير مؤكد، فإن بعض التحليلات تشير، إلى أنه في حالة انهياره، فإن البديل قد لا يكون حكومة ليبرالية موالية للغرب، بل تفتت واسع النطاق إلى قوميات عرقية (الأكراد، والعرب، والبلوش، والأذربيجانيين). قد يؤدي هذا التشرذم إلى خلق مساحات غير خاضعة للحكم، حيث يمكن للجماعات الإرهابية أن تزدهر، على غرار النتائج التي شهدناها في ليبيا وسوريا واليمن.
إن الحرب على إيران تخلق بيئة إقليمية متقلبة، من شأنها أن تساهم في تشجيع جماعات مثل القاعدة. إذا اعتبر النظام الإيراني الحرب تهديدًا وجوديًا،، فقد “يتخلى عن الحذر” ويلجأ إلى تدابير متطرفة، مستغلًا بذلك علاقاته القائمة مع وكلائه أو جماعات أخرى، مما قد يزيد من زعزعة استقرار المنطقة، ويخلق فرصًا لمنظمات مثل القاعدة.
يقال إن إيران تحافظ على علاقة مع تنظيم القاعدة، بما في ذلك علاقاتها مع “أميرها الفعلي”، سيف العدل. يشكل فرع تنظيم القاعدة في اليمن، بقيادة سعد بن عاطف العولقي، تهديدًا خاصًا، حيث حث زعيمه على اتخاذ إجراءات ضد المسئولين الأمريكيين، ودعا المسلمين إلى ضمان عدم وجود “مكان آمن” لليهود بعد الأحداث في غزة. يحافظ الحوثيون في اليمن علي علاقات متميزة بتنظيم شباب المجاهدين في الصومال، مما قد يمثل تهديدا كبيرا في القرن الإفريقي، ويزيد من أزمة الملاحة في البحر الأحمر.
يؤدي الصراع إلى تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي الأوسع نطاقًا، بما في ذلك الأزمات الاقتصادية والمخاوف الإنسانية، وخاصة تلك الناجمة عن الحملة العسكرية الإسرائيلية المستمرة في غزة. إن هذا الاضطراب المتزايد، إلى جانب الاستياء العام والإدانة الواسعة النطاق للأفعال الإسرائيلية، من شأنه أن يخلق بيئة مواتية للتطرف والتجنيد من قبل الجماعات المسلحة المختلفة، بما في ذلك تنظيم القاعدة، من خلال تأجيج المظالم والشعور بالظلم.
أدت العمليات الإسرائيلية إلى مفاقمة ضعف الجهات الفاعلة من الدول، والتي انهارت سلطتها المركزية علي مدار الـ١٥ سنة الماضية. يؤدي هذا إلى فراغات في السلطة أو تحولات في الديناميكيات الإقليمية، حيث قد تسعى جهات فاعلة أخرى غير حكومية، بما في ذلك الجماعات المتطرفة إلى توسيع نفوذها.