“الهجوم ليس مفيدا.. لا لأمريكا ولا لإسرائيل”.

كان ذلك استخلاصا من البيت الأبيض لنتائج وتداعيات الهجوم الإسرائيلي على العاصمة القطرية استهدافا لوفد “حماس” التفاوضي!

إنه اعتراف مراوغ بالفشل الاستخباراتي والعسكري للهجوم الهمجي على دولة حليفة، توجد على أراضيها قاعدة “العديد”، التي توصف بأنها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط.

لم يكن ممكنا، أن يتم ذلك الهجوم دون ضوء أخضر أمريكي وتنسيق مسبق.

هذه بذاتها فضيحة سياسية واستراتيجية للولايات المتحدة قبل إسرائيل.

ثم كان فشل الهجوم في النيل من حياة وفد “حماس” القيادي ضربة استخباراتية مهينة.

المعلومات كلها متوافرة والتخطيط بدا محكما.

ألحت واشنطن على استدعاء قيادات “حماس” من تركيا إلى قطر، حتى يبتوا في مقترح الرئيس “دونالد ترامب” لإنهاء الحرب وإطلاق سراح الرهائن دفعة واحدة قبل الدخول في بقية الاشتراطات الإسرائيلية عن اليوم التالي، أولها وأخطرها نزع سلاح المقاومة الفلسطينية.

كان ذلك كمينا منصوبا، للتخلص بالاغتيال من الوفد المفاوض كله بذريعة غير متماسكة وغير مقنعة، إنه هو من أفسد بتشدده كل الصفقات المقترحة السابقة!

أضيفت ذرائع أخرى بعضها معتاد مثل، المسئولية السياسية عن أحداث السابع من أكتوبر (2023)، وبعضها مستجد مثل الرد على عملية القدس، التي أفضت إلى مقتل (7) إسرائيليين، وإصابة (15) آخرين.

بطبيعة الدور الوظيفي، الذي تلعبه قطر في تسوية وإنهاء منازعات إقليمية ودولية لمقتضى ما تطلبه المصالح والاستراتيجيات الأمريكية، فإن وجود قيادات لـ”حماس” في الدوحة، كان عملا مرتبا ومتفقا عليه مع إدارات أمريكية متعاقبة لدواعي التفاهم والتفاوض.

قوض إلى الأبد أي كلام له صفة الجدية عن أية ضمانات لسلامة حياة قيادات “حماس” وحزب الله بعد نزع سلاح المقاومة.

إننا أمام خرق فادح لأي تفاهم وإنهاء لأي تفاوض وإحراج بالغ بالوقت نفسه للدور الأمريكي.

محاولة الاغتيال بذاتها تنهي- موضوعيا- أية مفاوضات ووساطات، وتضع الرئيس الأمريكي في موضع المتآمر على مفاوضيه!

المعضلة، أن العالم العربي في أوضاع الانكشاف، التي يعانيها، يصعب على نظمه أن تتحدى، أو أن تستثمر في الفرص المتاحة أمامها لدمغ إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة بـ”الدولة المارقة”، أو إعادة تعريفها كـ”دولة عنصرية”، أو تشبيه الصهيونية بـ”الأبارتهايد” و”الفاشية” على ما جرى إثر حرب (1973)، قبل أن يتم إلغاء هذا القرار الخطير بذريعة تشجيع السلام!

في محاولة للتنصل من مسئولية التواطؤ على سيادة وأمن دولة حليفة، أعلن البيت الأبيض في البداية، أن الجيش الأمريكي رصد الهجوم وأبلغنا به، كأنه لم يكن طرفا فيه!

ثم عاد ليعلن، أن تل أبيب أبلغته بالهجوم قبل حدوثه مباشرة، مجرد إبلاغ منعا للعتب.

أراد أن يقول: كل شيء تم بعيدا عنه، أو التورط فيه.

 لم يكن ذلك مقنعا لأحد بالعالم كله.

هناك سؤال افتراضي، لكنه ماثل بقوة: ما مسوغ وجود قاعدة “العديد”، التي تقع على بعد كيلو مترات قليلة من موقع الاستهداف، إذا لم تتصد لمثل هذا الهجوم؟

السؤال بذاته يؤكد على صحة التوجه، الذي تبنته ثورة يوليو بقيادة “جمال عبد الناصر” خمسينيات القرن الماضي، في مناهضة القواعد العسكرية الأجنبية، واعتبارها تعبيرا صريحا عن الاحتلال المباشر.

هذه هي الحقيقة، التي تضرب في مفهوم الأمن الخليجي عند منابع النفط والغاز.

أي كلام آخر تدليس على الحقيقة.

في صياغة أخرى للموقف الأمريكي، قال البيت الأبيض: “طلبنا من المبعوث ستيف ويتكوف إبلاغ القطريين بالهجوم”.

القطريون نفوا هذه الرواية بعبارة قاطعة: “هذا كذب”.

كل ما حدث، أن “ويتكوف” أبلغ عن الهجوم في لحظة اشتعال النيران بالموقع المستهدف، قبل أن يعلن الجيش الإسرائيلي عنه مباشرة.

تبدت فرضية أقرب إلى الخزعبلات، أن الإدارة الأمريكية هي التي سربت موعد الهجوم وأهدافه عبر وسطاء وحلفاء، كأن واشنطن أرادت إفشال الهجوم الإسرائيلي لدواع مجهولة.

ما حدث بالضبط: فشل استخباراتي أمريكي وإسرائيلي في عملية يفترض فيها توافر كل عناصر النجاح.

كيف تسربت المعلومات الأساسية عن موعد الهجوم الإسرائيلي إلى قيادات “حماس”، فأفشلت عملية الاغتيال الجماعي؟

هذا سؤال تدخل فيه اعتبارات ومصالح عديدة، تناهض تغول القوة الإسرائيلية.

ترددت عناوين عامة لدول إقليمية بينها تركيا وإيران ومصر، كل لأسبابه وحساباته.

الأولى، بدواعي أزمتها المتفاقمة مع إسرائيل في سوريا، فعلت كل شيء لإطاحة نظام “بشار الأسد”، تصورت أن بوسعها تقاسم النفوذ مع إسرائيل، فإذا بها تخرج من المعادلة خاوية الوفاض ومهددة في أمنها الداخلي.

الثانية، على خلفية الأزمة النووية المتفاقمة، التي تنذر بعملية عسكرية جديدة ضدها.

والثالثة، تحت ضغط مشروع التهجير القسري والخسارة المحتملة لأي سيادة على سيناء.

أين الحقيقة بالضبط؟

حيرة الإجابات تؤشر، إلى أن ردات الفعل قد تتجاوز أية حسابات مسبقة.

الإقليم كله سوف يبدأ في إعادة حساباته، قبل أن تفتح عليه بوابات الجحيم على ما هدد “ترامب” قبل (72) ساعة من الهجوم الإسرائيلي.

وصف “ترامب” مقترحه للسلام بـ”الفرصة الأخيرة”، أو الإنذار الأخير، إما أن تقبله “حماس” كما هو، وإما أن تنتظر ما قد يحدث لها مروعا.

يستلفت الانتباه هنا، أن لغة التهديد والوعيد التي استخدمها “ترامب” ترددت مفرداتها في خطابي وزير الدفاع الإسرائيلي “يسرائيل كاتس”، ورئيس الأركان “إيال زمير”.

كان ذلك نوعا من التمهيد لتغيير قواعد الاشتباك بالاستباحة الكاملة في غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان واليمن ومصر في نهاية المطاف بالتهجير القسري.

إنه مشروع استسلام يحقق لإسرائيل بالسياسة، ما لم تحققه بالسلاح، لا اجتثت “حماس” ولا استعادت الأسرى والرهائن لدى “حماس”.

التواطؤ وصل إلى حده الأقصى بإعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” أمام مجلس الوزراء المصغر، أن “ترامب” طلب منه المضي قدما في الحرب ورفض أي صفقات جزئية!

لم يصدر عن البيت الأبيض أي نفي.. في الصمت إثبات.

“قطر حليفة، لكن حماس تستحق أن تضرب”.

كانت تلك الصياغة لـ”ترامب” محض تبرير للدور الذي لعبه في العدوان “الغادر” و”المتهور” على ما وصفته البيانات الخليجية المتواترة.

في لحظة الانتشاء بنجاح الهجوم، أبلغ “نتنياهو” الرئيس الأمريكي، أنه يجب التوصل إلى السلام بسرعة.

في لحظة تكشف الفشل، أبلغ “ترامب” القطريين، أن ذلك لن يتكرر مرة أخرى!

تحدث مجددا، عن أن هناك فرصة للسلام.

إننا أمام مرحلة جديدة بلا قواعد اشتباك، كل شيء في العالم العربي منكشف، وكل شيء مستباح.

العودة إلى الأعمال العنيفة ضد المصالح والشخصيات الإسرائيلية في الخارج على النحو الذي هيمن على العمل الفلسطيني سبعينيات القرن الماضي سيناريو محتمل، لغة الاغتيالات ليست حكرا على طرف دون آخر.

الحرب على مصر، سيناريو وارد واستبعاده خطيئة بحق البلد.

هذه بعض رسائل الهجوم الإسرائيلي الفاشل، وليست كلها.