في 9 سبتمبر 2025، نفّذت إسرائيل عملية غير مسبوقة، استهدفت قيادات من حركة حماس في العاصمة القطرية الدوحة، في تطور حمل رسائل أمنية ودبلوماسية تتجاوز حدود الصراع التقليدي.
اعتبرت تل أبيب العملية جزءًا من معركتها، ضد ما تسميه «الملاذات الآمنة»، بينما رآها محللون منعطفًا استراتيجيًا، قد ينعكس على علاقاتها مع دول الخليج وعلى مفهوم الحماية الأمريكية للمنطقة. يهدف هذا التقرير إلى تفكيك دلالات العملية، وما بعدها مع استعراض خريطة الأهداف المحتملة، وربطها بالبعد الاستراتيجي والخريطة الإقليمية.
مقاربات أمنية استباقية
لم تعد إسرائيل، تكتفي بملاحقة خصومها عند حدود غزة، أو في جنوب لبنان. بعد 7 أكتوبر، تغيرت قواعد اللعبة، وأصبح بنك الأهداف بلا حدود، ضربة الدوحة لم تكن مجرد اغتيال لقيادات حماس، بل دليل، بأن ذراع إسرائيل باتت تمتد إلى أنقرة وبيروت ودمشق، وربما أبعد من ذلك.
ترى صحيفة هآرتس، أن نتنياهو يخاطر لأنه يريد إبقاء الحرب مستمرة، بينما أشار تقرير في يديعوت أحرونوت، أن العملية حققت نجاحًا جزئيًا فقط؛ لأن بعض المستهدفين نجوا، ما يعني أن بنك الأهداف ما زال مفتوحًا.
تبدو العملية مرتبطة باستراتيجية عسكرية، جرى تطويرها بناء على تغيرات فرضتها الحرب، في مقال بـ Foreign Affairs، كتبه مئير شابات وأشر فريدمان («The Middle East Is Still Post-American»)، يُلمح إلى أن إسرائيل ترى أن البيئة الأمنية في الشرق الأوسط تغيّرت، بحيث أن الاستراتيجيات التقليدية للردع لم تعد كافية، وأنه يجب تبني مقاربات أمنية استباقية، تتعامل مع التهديدات حتى في أماكن بعيدة.
لكن في ذات الوقت، تكشف واشنطن بوست، أن بعض دوائر الموساد كانت مترددة بشأن ضربة الدوحة؛ خشية تكلفتها الدبلوماسية، لكن القيادة السياسية فضلت المضي قدمًا لتوجيه رسالة: «لن يكون هناك مكان آمن لقيادات حماس خارج غزة بعد الآن”.
إرث «الجدار الحديدي»
لا يمكن فهم التحول في الاستراتيجية الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر بمعزلٍ عن إرثٍ فكريٍ قديم في الحقل الصهيوني، ففي عام 1923، كتب زئيف جابوتنسكي مقالة «الجدار الحديدي» التي رأت أن العرب لن يقبلوا المشروع الصهيوني طوعًا، وأن السبيل الوحيد لإرساء موقف تفاوضي هو إقامة «جدار حديدي من القوة»، أي قدرة أمنية، لا يحاول السكان المحليون اختراقها، بحيث يتبدّل الموقف ويُقبل بالتسوية.
مع مرور الزمن، انتقلت هذه الفكرة من منطلق أيديولوجي إلى عنصر مؤثر في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي: من منطق الردع في عقودٍ سابقة إلى سياسات فصلية، وقيودٍ أمنية أكثر وضوحًا، شاهدة على ذلك مشاريع مثل جدار الفصل العنصري.
واليوم، يُعاد إحياء روح «الجدار الحديدي» وإصلاحها، كما يذهب الباحث مهند مصطفى، بعد أن تجاوزت عملية السابع من أكتوبر مفهوم الأمن والردع.
ويجرى العدوان في نطاق أوسع، وبصيغة أكثر هجومية: سياسة «بنك أهداف ممتد» تقوم على الاغتيالات، والضربات السيبرانية، والعمليات الخارجية؛ بهدف إقناع الخصوم، من الحركات الفلسطينية إلى قوى إقليمية، أن أي مقاومة سوف تُكبّدهم خسائر فورية، تفوق ربحهم.
خريطة بنك الأهداف الممتد
أعادت ضربة الدوحة فتح النقاش حول اتساع نطاق العمليات الإسرائيلية، حيث أشارت تقارير في الصحافة العبرية، إلى أن أنقرة باتت ملاذًا لبعض قيادات حماس، من بين هؤلاء زاهر جبارين، عضو المكتب السياسي والمُلقّب بـ«وزير مالية الحركة»؛ نظرًا لإشرافه على شبكات التمويل، وكذلك خالد مشعل، الرئيس الأسبق للمكتب السياسي الذي يتنقل بين الدوحة وأنقرة.
تدرك إسرائيل، أن أي عملية في تركيا لا يمكن أن تُنفّذ على نمط الهجوم الذي وقع على الدوحة، بحكم عضوية أنقرة في حلف الناتو، وما قد يستدعيه ذلك من ردود فعل معقدة. وربما رد عسكري، لذا يُرجَّح أن تبقى سيناريوهاتها المحتملة، محصورة في عمليات محدودة أو اغتيالات دقيقة، بدلًا من غارات وعمل علني ذي طابع عسكري.
وإلى جانب تركيا، يظل لبنان ساحة مفتوحة مع حزب الله وبعض الشخصيات الفلسطينية المقيمة في المخيمات من فصائل المقاومة، بينما تبقى سوريا ضمن مسرح الاستهداف الإسرائيلي، لما تعتبره تل أبيب مواقع نفوذ إيرانية، أو شخصيات تنتمي للمقاومة. وقد شمل هذا النمط بالفعل اغتيالات لقادة وخبراء عسكريين في بيروت وطهران خلال السنوات الأخيرة.
أما مصر، فتُشكّل خطًا أحمر استراتيجيًا منذ اتفاقية كامب ديفيد، فهي شريك أساسي في إدارة ملف غزة ومعبر رفح، وقد سبق أن حذّرت القاهرة من أي محاولات إسرائيلية لاستهداف ممثلي الفصائل الفلسطينية على أراضيها، لهذا، تبقى مصر خارج نطاق «بنك الأهداف»، وتسعى تل أبيب دومًا للحفاظ على توازن دقيق في علاقتها معها.
دعم واشنطن وصراعات تل أبيب
لا يمكن فهم اتساع «بنك الأهداف» الإسرائيلي بمعزل عن العلاقة الأمريكية- الإسرائيلية، تشير تحليلات، إلى أن الدعم الأمريكي لإسرائيل لم يقتصر على التأييد السياسي فقط، بل شمل تفاهمات أمنية، تلامس إدارة ساحات نفوذ إقليمية مثل سوريا، وهو ما يفسّر هامش المناورة الواسع الذي منحته واشنطن لتل أبيب في مراحل ما بعد 7 أكتوبر، ومع ذلك، أثارت ضربة الدوحة إحراجًا أمريكيًا واضحًا، إذ انتقدت واشنطن وبعض الحلفاء الإجراء، وأبدت قلقًا من تأثيره على الوساطة والدعم الإقليمي.
على المستوى الإقليمي، أدّى التمدد إلى تكاليف سياسية ودبلوماسية ملموسة: أزمة مع قطر، قلق تركي، حرج في واشنطن، وإعادة حسابات في القاهرة.
ومع ذلك، داخل إسرائيل، يعود الأمر لاعتبارات مختلفة، فقد منح هاجس الأمن بعد 7 أكتوبر شرعية شعبية لسياسات استباقية، حتى وإن كلفت العلاقات الخارجية. وصف مراقبون في هآرتس هذه الظاهرة، بأنها «اللا مبالاة بالعواقب» أي قبول الرأي العام الإسرائيلي بتحمّل ثمَن دبلوماسي مقابل استعادة الإحساس بالأمن.
الرسالة الإسرائيلية باتت واضحة ومُسوقة داخليًا وخارجيًا، «لن ننتظر الخطر عند حدودنا… سنذهب إليه أينما كان»، تُروّج دولة الاحتلال اليوم لصورتها كقوة هجومية إقليمية قادرة على ضرب الأهداف خارج حدودها، وبأساليب غير تقليدية، وهو خطاب يطالِب الشركاء الغربيين بالقبول، وفي الوقت نفسه يُبقِي الخصوم في حالة قلق متواصل.
الانعكاسات الإقليمية والسيناريوهات المقبلة
ضربة الدوحة ليست عملية معزولة، بل أحدثت سلسلة من الارتدادات في الإقليم بأكمله، كل ساحة من ساحات الشرق الأوسط وجدت نفسها مضطرة لإعادة حساباتها.
قطر خسرت جزءًا من صورتها كوسيط محايد وآمن، اغتيال قيادات حماس في قلب الدوحة أحرجها أمام العالم، وأضعف موقعها كمنصة للتفاوض، ومع ذلك، فإن استمرار اعتماد إسرائيل والولايات المتحدة على قنواتها، يجعلها في موقع معقد.
تركيا ساحة مواجهة محتملة، وجود قيادات بارزة من حماس مثل، زاهر جبارين، وخالد مشعل في أنقرة، يضع الحكومة التركية أمام اختبار صعب، أي عملية إسرائيلية هناك، قد تفتح أزمة مباشرة.
وقد تسعى إسرائيل في لبنان لاستهداف شخصيات فلسطينية في المخيمات أو قيادات ميدانية لحزب الله، بهدف توجيه رسائل دون العودة للحرب.
تبقى إيران “الملف الأبعد والأخطر”. إسرائيل تدرك أن مواجهة مباشرة مع طهران الآن بعد التجربة السابقة في يونيو الماضي، قد تشعل حربًا إقليمية، لذا تفضّل العمل في الظل، هجمات سيبرانية معقدة، واغتيالات لخبراء وقادة عسكريين، والضغط عبر ساحات وسيطة كالعراق وسوريا ولبنان.
لكن التقديرات الغربية تحذر، من أن إسرائيل يمكن أن توسّع من بنك الأهداف مستقبلًا، ليشمل شبكات لوجستية أو تمويلية في أوروبا مرتبطة بإيران أو حماس.
الخلاصة:
كانت عملية الهجوم على الدوحة إعلانا رسميا عن دخول إسرائيل مرحلة “المطاردة بلا حدود”، من قطر إلى تركيا، ومن لبنان إلى إيران، تحولت خريطة المنطقة إلى بنك أهداف مفتوح، حيث لم يعد لأي ساحة أن تضمن لنفسها صفة “الملاذ الآمن”.
هذه الاستراتيجية تمنح تل أبيب دفعة نفسية قوية في الداخل، وتعيد لها ثقة، اهتزت بعد 7 أكتوبر؛ لكنها في الوقت نفسه تضعها على مسار مليء بالتناقضات، مكاسب قصيرة المدى مقابل احتمالات تصعيد طويل الأمد، ورسائل قوة إقليمية مقابل أزمات دبلوماسية مع حلفاء ووسطاء.
الشرق الأوسط، إذن، أمام معادلة جديدة: إسرائيل التي عاشت عقودًا، تدير الصراع ضمن حدودها المباشرة، تعلن اليوم، أنها ستهاجم خصومها في أي مكان.
والسؤال الذي يفرض نفسه بعد الدوحة، أين ستكون الضربة التالية؟ وكيف سيعيد الإقليم رسم توازناته في ضوء هذا التحول الأخطر؟