بينما يمكن بسهولة جمع عشرات القصاصات “السوشيالية”، وفقرات من كتابات هزلية أو رصينة، أو تدعي الرصانة، تلعن كلها في قرار القائد الراحل “يحيى السنوار” بإطلاق عملية “طوفان الأقصى” صباح السابع من أكتوبر، 2023، و”ترص” النتائج الكارثية للقرار، والمتمثلة من وجهة نظر كاتبيها في تدمير قطاع غزة وتسويته بالأرض، وقتل الاحتلال، لما يقارب الثمانين ألف فلسطيني، وأضعافهم من الجرحى والمفقودين، مع ادعاءات أو اعتقادات بـ”إعادة القضية الفلسطينية للوراء سياسياً”، في مقابل أعداد مماثلة من التعليقات، ترى أن الطوفان أعاد القضية للواجهة، وساهم في تنامي تيار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتغيير الصورة الذهنية عن إسرائيل في أوروبا، فضلا عن تكبيده دولة الاحتلال خسائر عسكرية واقتصادية فادحة.

بين هذا وذاك، يبدو الوقت ملائما لنظرة أكثر شمولاً، وربما أكثر عقلانية لمشهد “الطوفان” الذي أزاح في طريقه الكثير من “كراكيب المشهد السياسي” العربي والإقليمي.

المشهد الإسرائيلي قبل 7 أكتوبر.. نمو هش وتصدع داخلي

يغفل الطرفان ـ أحيانا ــ المدافع والمهاجم، قراءة المشهد الإسرائيلي في اللحظة التي سبقت عملية الطوفان، والتي انبنى عليها قرار الإطلاق، من قبل “أبو إبراهيم” الذي كان قارئا جيدا لواقع العدو، سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا.

في الفترة التي سبقت عملية السابع من أكتوبر، كانت إسرائيل تبدو من الخارج، وبحسب البيانات الاقتصادية كدولة مزدهرة تقنيًا ودبلوماسيًا بفضل إنجازات اقتصادية واتفاقات إقليمية.

 في المقابل، كانت هناك عناصر بنيوية تمثلت في استقطاب سياسي واسع، نقاش حول هوية الدولة، وتساؤلات عن عدالة القانون ومساواة المواطنين، جعلت الاستدامة السياسية والاجتماعية لهذا النمو هشّة.

وبينما عززت خطوات مثل قانون الدولة- اليهودية واتفاقات إبراهام حضور الدولة اليهودية عمليًا ودبلوماسيًا، لكنهما في الوقت نفسه عمّقتا خطوط التصدّع الداخلي، ما يجعل أي صدمة أمنية أو سياسية (كما حصل في 7 أكتوبر)، تترك أثرًا أكبر وأكثر تدميرًا على النسيج الوطني، حسب تحليلات خبراء صهاينة وألمان بينها، ما نشرته مؤسسة العلوم والسياسات الألمانية وقتها.

لماذا عمقت اتفاقات إبراهام وقانون يهودية الدولة من التصدع الداخلي لدولة الاحتلال؟

السؤال يبدو مشروعاً، والإجابةــ مرة أخرى حسب ورقة نشرها  المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل ــ  تمثلت في ثلاث نقاط، هي تعميق الاستقطاب السياسي والمؤسسي “أزمة القضاء نموذجاً”، وقضايا المساوة وإدارة الأقلية العربية، وأخيرا الاعتماد على موارد بشرية وقطاع تقني معرض للمخاطر، الأمر الذي رفع وتيرة التحذيرات، من أن حدوث اي صدمة أمنية ستؤدي لانهيار سريع في “اقتصاد الابتكار” الذي يقود قاطرة الاقتصاد الإسرائيلي.

عبقرية التوقيت

ربما لم تكن حماس على استعداد عسكري كاف؛ لخوض المواجهة، كما يرى كثيرون الآن، فضلا عن كونها لم تبلغ شركاءها في “محور المقاومة” بالتوقيت، الأمر الذي أربك حسابات الإسناد، باستثناء حزب الله الذي اتخذ أمينه العام الراحل السيد حسن نصر الله قرار الإسناد، دونما حسابات بخلاف وازع الواجب الأخلاقي والديني.

لكن هذا التوقيت الذي يراه البعض الآن غير ملائم أو متسرع، كان الأنسب تماما، إذا نظرت من جهة “الداخل الإسرائيلي”، الذي أجاد السنوار قراءته.

قانون دولة الأمة والاتفاقات الإبراهيمية.. شرعنة الوجود اليهودي وانتهاء صراعات الهوية

في يوليو 2018، أقرّ الكنيست قانون أساس “إسرائيل دولة- أمة للشعب اليهودي”، يكرّس طابع الدولة اليهودي في مواد دستورية أساسية، لغة رسمية، رموز قومية، تشجيع الاستيطان اليهودي، إلخ.

 القانون أُريد به تثبيتًا لشرعية الوجود اليهودي الوطني بعد عقود من صراعات الهوية.

دعك مما قيل من أن القانون أثار جدلا واسعا حول طبيعة الدولة، وهل هي “واحة ديموقراطية وحيدة في صحراء ديكتاتوريات الشرق الأوسط”، أم أنها مجرد دويلة دينية أخرى في المنطقة، فهذا الجدل كان سيحسم في النهاية لمصلحة المنافع الغربية المتلحفة بالرداء التوراتي، لكن أهمية التوقيت هنا، كانت في ضرب المفهوم الذي يراد أن تنبني عليه الدولة في المرحلة اللاحقة.

الاتفاقات الإبراهيمية بدورها، والتي منحت دولة الاحتلال مزايا نسبية، تمثلت في توسيع حضورها الاقتصادي، وتخفيف العزلة الإقليمية “الرسمية”، وفتحت قنوات لتل أبيب مع عواصم عربية، دونما انتظار لتسوية سياسية للقضية الفلسطينية، وهي التسوية المرتقبة منذ اتفاق أوسلو قبل عشرين عاماً تقريباً.

إلا أنها في الوقت نفسه، رهنت “الحالة الجديدة” بتوازنات إقليمية هشة، وأضافت عبئا على صانع القرار الإسرائيلي، حال غامر بخسارة المكسب المستجد.

إذن، كان الخيار إما الطرق على حديد التناقضات البنيوية، وهو هش لم يتماسك، ولم يتخذ مسار الصيرورة المأمولة، وإما الانتظار لتتحول “الدولة اليهودية المقبولة في محيطها” أمراً واقعا، بينما مسألة “السكان الأصليين” جزءا، من تاريخ قد يستغرق صفحتين في كتب ودراسات المتخصصين.

سياسيا، كان المشهد الآني يحمل تناقضات بنيوية، لا تقل في عمقها عن نظيريه القانوني والمجتمعي، حيث ظل المشهد السياسي قائما على حكومات ائتلافية، وحملت انتخابات 2022 إلى سدة الحكم تحالفا يمينيا بقيادة نتنياهو، أعاد تشكيل الخريطة السياسية، وانعكس في صورة سياسات، تتجه يمينا في قضايا الأمن والهوية.

انهيار دولة السردية

اسرائيل ليست دولة طبيعية، بل هي مجازا “دولة” تم بناؤها على مجموعة من الأساطير، بعضها توراتي قديم كأسطورة الأرض الموعودة، وبعضها حديث، كأسطورة معاداة السامية، وعدالة نورنبيرج، تلك الأساطير تنسج سردية مصطنعة؛ بهدف التمويه على الدور الحقيقي الذي كشفه ببساطة المستشار الألماني فريدريش ميرتس، عندما قال إن إسرائيل “تقوم بالعمل القذر من أجل الغرب”، وصادق على كلامه سفير إسرائيل لدى ألمانيا، رون بروسور، قائلا إن ميرتس “وصف واقع الشرق الأوسط بشكل صحيح”.

هذا هو الامر ببساطة، الغرب ذو المطامع التي لا تنتهي يريد “مقاولا” لأعماله القذرة، واسرائيل مهيأة ومرحبة بهذا الدور.

عملية طوفان الأقصى، التي لم يتوقع صناعهاــ في تقديري ــ أنها لن تكون أكثر من جولة، تسبق المواجهة النهائية المحتومة، تحولت إلى جولة مصير، فطال أمدها، وتوسع صداها أفقياً ورأسياً، ولم تتمكن الميديا الغربية التقليدية من احتوائهاــ كما حدث عند غزو العراق مثلاــ ما شقق السردية المتوهمة عن دولة إسرائيل، والخطورة هنا ليست فقط فيما يعتقده “المواطن الإسرائيلي ” الذي فوجئ أن حياته مبنية على كذبة، ولا حتى متغيرات الرؤية لدى المواطن الأوروبي، الذي رضع فكرة “معادة السامية” كسلاح يشهر في وجه منتقدي آخر استعمار على كوكب الأرض.

الخطورة وربما المكسب الحقيقي هنا هو تشقق السردية التي بنيت عليها الدولة، واستحالة ترميمها، ما يؤهل لانهيارها لاحقاً، ويجعل سقوطها مسألة وقت في ظل استحالة إنجاز هذا السقوط من خلال حرب استقلال تقليدية كالتي خاضتها دول أخرى بالمنطقة.

.. وماذا عن الفواتير

لا يمكن بحال من الأحوال تجاهل الفاتورة المرعبة التي تكبدتها غزة، خلال عامين من حرب وصفتها الأمم المتحدة، وكافة الجهات الأممية والمؤسسات القانونية، بأنها “حرب إبادة” مكتملة الأركان، بينما وصمت المحكمة الجنائية الدولية رئيس حكومة دولة الاحتلال، بأنه “مجرم حرب”، وطالبت بتقديمه للعدالة.

القتلى تجاوز عددهم الثمانين ألفا، جرحي ومفقودين يقدر عددهم بما يفوق النصف مليون إنسان، وأطفال ماتوا من الجوع، في واقعة تمثل عارا على الإنسانية، لكن هل يعني هذا أن “إجمالي الحسبة” خاطئة؟

ستظل المسألة تقديرية، وبالتأكيد ستختلف الرؤية الفلسطينية، المنطلقة من واقع معاش عن رؤية المراقب الخارجي مهما كانت درجة تعاطفه مع القضية،

وهنا لا بد من الإشارة، إلى أن “المقتلة” لم تتوقف على مدار 77 عاما، حتى في الفترة التي أعقبت اتفاق أوسلو، والتي كانت للسياسة فيها الكلمة العليا.

وعند الانتقال للطرف الآخر، دولة الاحتلال، يمكن القول إن الخسارة الضخمة هي الانهيار البنيوي الذي دفع رقما، يقدر بالآلاف إلى الهجرة العكسية من دولة الاحتلال إلى أوروبا والغرب، اغلبهم من “العقول” العاملة في مجالات التكنولوجيا،  فضلا عن خسائر اقتصادية بالمليارات، وشبه انهيار في قطاع التكنولوجيا الذي كان يقود قاطرة الاقتصاد، وانهيار أكذوبة الديموقراطية الاسرائيلية، حيث واصل نتنياهو حربه متجاهلا آلاف المتظاهرين في الشارع على مدار أشهر طويلة، كما يليق بحاكم شرق أوسطي، وكذا انهيار أكذوبة حرص إسرائيل على مواطنيها “المخطتفين”، والتي رسختها سنوات التفاوض، ثم صفقة “شاليط”؛ لتؤكد أنها مجرد دعاية، تتلاشى فور تعارضها مع “المصالح الحقيقية” والعمل القذر المنوط بدولة الاحتلال القيام به.

هناك عشرات البنود التي تتضمن أشكالا لخسائر دولة الاحتلال بعضها مادي وبعضها معنوي، يمكن للباحث “العاقل” الوصول اليها بسهولة، أغلبها وأكثرها تأثيرا عسكري واقتصادي،  يتضمن مثلا ستة آلاف جندي إسرائيلي قتيل “لم يعترف جيش الاحتلال إلا بـ1500، وكان يدفع عشرة آلاف دولار للأسرة التي توافق على تسلم جثة ابنها دون إعلان”، و67.5 مليار دولار: إجمالي تكلفة الحرب.

فضلا عن تأثر معيشة 65% من السكان، ونزول 25% منهم تحت خط الفقر، وانهيار قطاع السياحة وتراجع الناتج المحلي.

 لكننا آثرنا هنا التوقف بشكل أساسي عند الخسارة البنيوية، التي تعني نهاية حتمية لدولة الأعمال القذرة.