منذ اندلاع حرب الإبادة على غزة في أكتوبر 2023، كانت إسرائيل تراهن، على أن الغرب في صفها، وأنها اكتسبت تعاطفه من خلال ادعاءات المظلومية وكونها ضحية هجوم السابع من أكتوبر.

لكن ما حدث في أقل من عامين، خالف التوقعات تماما، حيث تحول الرأي العام الغربي من التعاطف التاريخي إلى التشكك الأخلاقي غير المسبوق، مدفوعا بقوة الصورة الحية من غزة، والاحتجاجات التي اجتاحت الجامعات، وتنامي الخطاب الحقوقي في مراكز الفكر والإعلام، واضطلاع بعض الشخصيات المؤثرة بإظهار الوجه الحقيقي للقضية الفلسطينية.

 وما بين استطلاعات الرأي ومؤشرات السمعة الدولية، وجدت إسرائيل نفسها ولأول مرة منذ تأسيسها مضطرة للاعتراف، بأنها تواجه عزلة دولية متصاعدة في الوعي الغربي.

خريف 2023.. مؤشر جالوب يتحدث بصوت مرتجف     

 نشرت مؤسسة جالوب سلسلة استطلاعات حول نظرة الأمريكيين إلى الحرب في غزة منذ أكتوبر 2023، وحتى يوليو 2025، وتحديدًا إلى الدعم الشعبي لسياسات إسرائيل العسكرية، وكانت تحولات الأرقام كافية؛ لتُعلن أن شيئًا يتغير في العمق.

ففي نوفمبر 2023، كان 50% من الأمريكيين يؤيدون العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة.

وفي مارس 2024، انخفضت النسبة إلى نحو 41%، ثم تواصل الانخفاض لتصل في يوليو 2025، إلى 32%، وهي أدنى نسبة في تاريخ استطلاعات جالوب عن إسرائيل.

 أما الفجوة العاطفية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فقد تقلّصت إلى حدود غير مسبوقة، حيث سجل المؤشر، أن 46% يتعاطفون مع الإسرائيليين في مقابل 33% يتعاطفون مع الفلسطينيين.

بينما في السابق، كانت هذه الهوّة تصل إلى 40 أو 50 نقطة.

ببساطة، الهامش يذوب، والتعاطف ينكسر على ميزان الرأي العام.

ما تقوله جالوب، ليس مجرد تراجع في النسبة، بل انزياح في البوصلة الأمريكية الداخلية.
التأييد غير المشروط لإسرائيل لم يكن يومًا قرار حكومة فقط، بل كان يعكس إجماعًا اجتماعيًا نادرًا داخل أمريكا– من الكنائس إلى هوليود، ومن الجامعات إلى الحزبين الكبيرين.

ما الذي تغيّر؟

الصورة خرجت عن السيطرة، الصحفيون، والنشطاء، وحتى المدوّنين ينشرون صورًا، لا تستطيع القنوات التقليدية فلترتها، والانقسام السياسي يتعمق.

70 % من أعضاء الحزب الجمهوري يؤيدون إسرائيل في مقابل 10% فقط من الحزب الديمقراطي، مما يهدد بتفجر إجماع السياسة الخارجة الأمريكية.

في الأسابيع الأولى للحرب، أظهرت استطلاعات يو جوف وبيو، أن أكثر من 70%من الأمريكيين والأوروبيين يؤيدون حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لكن مع تزايد أعداد القتلى المدنيين تغيرت النغمة.

أظهر استطلاع للرأي في ديسمبر 2023، أن نسبة الأمريكيين الذين يرون، أن إسرائيل تستخدم “قوة مفرطة”، ارتفعت من 14% إلى 33٪ في شهرين فقط. وفي نهاية العام نفسه، قالت الجارديان:

“إن الرأي العام البريطاني بدأ “يشهد تحوّلًا جذريًا تجاه وقف إطلاق النار، وهو ما أكده استطلاع YouGov UK الذي أظهر أن 52% من البريطانيين يؤيدون وقف القتال فورا”.

ربيع 2024.. الجامعات تفتح جبهة جديدة

في مارس 2024، اعتصم طلاب كولومبيا وهارفارد وستانفورد؛ احتجاجًا على “تمويل الاحتلال”، لتتشكل أكبر حركة احتجاج مدنية مؤيدة لفلسطين في تاريخ الجامعات الأمريكية.

وبحلول إبريل من نفس العام أظهر استطلاع أن 61%من الأمريكيين تحت سن 35% يعتبرون إسرائيل “دولة تمارس سياسات عنصرية “، وهي أعلى نسبة تُسجل منذ تأسيس الدولة العبرية.
وفي أوروبا، بدأت جامعات مثل ترينيتي كوليدج دبلن وجامعة كوبنهاجن سحب استثماراتها من الشركات الإسرائيلية، تحت ضغط طلابي مدعوم برأي عام، تجاوز حدود الحرم الجامعي.

صيف 2024.. الأرقام تتحول إلى سياسات

مع منتصف 2024، بدأت نتائج استطلاعات الرأي تُترجم إلى قرارات سياسية فاعلة.

في يونيو 2024، أعلنت الحكومة الإسبانية تجميد تصدير الذخائر لإسرائيل، مدفوعة بتأييد شعبي تجاوز 60٪ وفق استطلاع يو جوف YouGov Spain.

في أغسطس 2024، أظهر استطلاع أن نسبة الأمريكيين الذين يعتقدون أن إسرائيل “تعوق السلام”ارتفعت إلى 45٪.
وفي الشهر نفسه، خفّضت وكالة موديز التصنيف الائتماني لإسرائيل لأول مرة منذ عقدين، مشيرة صراحة إلى “تآكل الثقة الدولية في استقرار البيئة السياسية والاقتصادية الإسرائيلية؛ نتيجة الحرب الطويلة في غزة.

شتاء 2024– 2025… عزلة علنية

مع حلول يناير 2025، بدأ الخطاب الإسرائيلي الداخلي يعترف بتغيّر المزاج الغربي.
في مقابلة مع صحيفة هآرتس، قال وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك إيلي كوهين: “نشهد تراجعًا مقلقًا في دعم الرأي العام الأوروبي لنا، وهو أخطر من أي قرار سياسي، يمكن أن تتخذه الحكومات.”

وفي مؤتمر الأمن القومي الإسرائيلي (تل أبيب– فبراير 2025)، أقرّ مستشار الأمن القومي السابق يعقوب عمي درور، بأن “الحرب على غزة لم تعد عسكرية فقط، بل معركة على شرعية الدولة في الغرب”.    

في الوقت نفسه، أظهر استطلاع الباروميتر الأوروبي، أن 65%من الأوروبيين في ثمان دول رئيسية، يعتقدون أن إسرائيل فقدت مبررها الأخلاقي، وان 58% من الألمان يشعرون بعدم الارتياح تجاه سياسات تل أبيب.  

ربيع 2025.. التحول يصبح مؤسسيًا

في مارس 2025، أصدرت مورنينج كونسلت تقريرها السنوي عن” سمعة الدول”، والذي هبطت فيه إسرائيل من المركز الـ25 إلى الـ52 عالميا منذ بدء المؤشر، وهو أسوأ ترتيب حصلت عليه.
وفي إبريل، أعلنت النرويج وهولندا قرارات تخارج من شركات إسرائيلية بقيمة إجمالية، تجاوزت مليار دولار، مبررة الخطوة بـ “تغير المزاج الأخلاقي العام في أوروبا تجاه الحرب”.

الجامعات الأمريكية واصلت الانسحاب: جامعة شيكاغو وييل وستانفورد، أعلنت مراجعة شاملة لاستثماراتها في شركات الأسلحة. وأظهرت البحوث، أن 47% من البريطانيين يرون أن إسرائيل تمارس سياسيات فصل عنصري، وهو رقم تضاعف في أقل من عامين.                           

صيف 2025.. إسرائيل تعترف بالعزلة

في يوليو 2025، قال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج في مقابلة مع القناة 12:”نشعر اليوم أننا نخسر الرأي العام الغربي، وهذه خسارة تحتاج سنوات لإصلاحها”

وفي أغسطس، نشر معهد الأمن القومي الإسرائيلي تقريرًا، حمل عنوان “عزلة إسرائيل” خلص إلى أن الدولة تواجه “تراجعًا تاريخيًا في سمعتها الغربية”، وأن “التهديد المعنوي في الغرب بات يُقاس بحدة التهديد الأمني في الشرق الأوسط”.

وفي سبتمبر 2025، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي في مؤتمر ميونيخ للأمن الوضع، بأنه “تحدٍ وجودي في الوعي الغربي”.

تراجع السردية

في لحظة تبدو فيها الصورة أوضح من أي وقت مضى، تتراجع السردية الإسرائيلية في وعي الغرب بوتيرة أسرع من أي ضربة عسكرية.

 فحرب غزة التي اندلعت في أكتوبر 2023، لم تكن فقط مجازر على الأرض، بل زلزالًا في بنية الوعي السياسي والإعلامي والشعبي في الولايات المتحدة وأوروبا، فتحول الرأي العام من سند ثابت إلى ساحة مقاومة.

استطلاعات الرأي شكلت أول مؤشر مبكر لهذا التحول، التعاطف الذي طالما مال لصالح إسرائيل بدأ بالتآكل.

الأهم هو أن مَن يُنتج هذا التحول “جيل زد” الفئة العمرية التي لم تعش أحداث أوسلو ولا الانتفاضات، لكنها رأت المجازر على الأرض والبث الحي من تحت الأنقاض.

هذا الجيل يقود اليوم مراجعة جذرية للسردية الصهيونية داخل أمريكا، حيث لا يرى هذا الجيل في إسرائيل دولة مظلومة، بل قوة غاشمة تُمارس الاحتلال بلا محاسبة.

 أكثر من 63٪ من هذا الجيل يتعاطفون مع الفلسطينيين، ويتعاملون مع غزة كرمز للعدالة الضائعة، ويشككون بكل ما يأتي من الحكومات أو المؤسسات التقليدية.

هذا الانفجار الوجداني لم يقتصر على جيل زد، بل تسلل إلى عمق الحزب الديمقراطي الأمريكي، حيث تراجعت نسبة التأييد لإسرائيل إلى 8٪ فقط.

 لم تعد القضية الفلسطينية قضية خارجية، بل اختبارًا جوهريًا للمبادئ الليبرالية، ولذا بدأت الجامعات– المعاقل التقليدية للنخبة– بالتمرد. من هارفارد إلى UCLA، تحولت ساحات الحرم الجامعي إلى مخيمات تضامن، رفضًا لتمويل إسرائيل، واحتجاجًا على صمت الإدارات.

وفي الوقت ذاته، اجتاحت نقابات العمال التي طالما تم تصويرها كقوى “محايدة”، ساحة المعركة الأخلاقية.

أكثر من 40 نقابة أمريكية، من البريد والتعليم والنقل، أصدرت بيانات رفض للحرب، بل وبدأ بعضها يرفض مناولة شحنات مرتبطة بالشركات الداعمة لإسرائيل.

هذه ليست بيانات رمزية، بل فعل سياسي، يربك سلاسل التوريد ويحوّل الشارع المهني إلى فاعل سياسي.

ثم جاءت أوروبا، القارة التي حملت عقدة الذنب تجاه المحرقة لعقود، واحتضنت إسرائيل كامتداد حضاري، بدأت تعيد النظر.

استطلاعات YouGov في فرنسا وألمانيا وإسبانيا أظهرت انهيارًا غير مسبوق في الدعم الشعبي لإسرائيل، وظهور انحياز شعبيا واضح لصالح الفلسطينيين.

 لقد سقطت الرواية الصهيونية من منصة المثقف الأوروبي، وبدأت الجماهير تتساءل: هل يمكن لدولة أن تظل ضحية أبدية، وهي تقصف أطفالًا كل صباح؟

في الوقت ذاته، قتلت إسرائيل أكثر من 91 صحفيًا فلسطينيًا، في عملية ممنهجة لتصفية الرواة. لم يكن الهدف فقط إسكاتهم، بل محو الذاكرة وتخريب الشهادة. لكن الدم المسكوب على الكاميرا، صنع سردية مضادة أقوى، وجعل من كل صورة وثيقة، ومن كل بث حي جدارًا أخلاقيًا في وجه الصمت العالمي.

ولم تكن هذه التحولات لتُقلق إسرائيل لو بقيت في الهامش. لكنها اليوم وصلت إلى مركز الإنتاج الإعلامي الغربي. في شبكات كبرى مثل سي بي سي.

 تسللت شخصيات مثل باري ويس الصحفية والكاتبة الأمريكية، وبدأت تؤثر في التغطيات، ليس عبر الدفاع العلني، بل عبر اختيار الكلمات، وإعادة ترتيب العناوين، وتكريس ما لا يُقال، فهكذا تُهندَس السردية في عصر ما بعد الخبر.

ألعاب استعادة الثقة

لجأت إسرائيل إلى أكثر أدواتها تطورًا، الذكاء الاصطناعي، فأطلقت وزارة الخارجية مشروعًا دعائيًا تحت اسم “545”، بميزانية 145 مليون دولار، هدفه إعادة تشكيل صورة إسرائيل عبر الخوارزميات، عبر توجيه الردود في منصات الذكاء الاصطناعي، والتحكم في ظهور الفيديوهات، وإغراق الوعي الرقمي بمحتوى ناعم موجه لجيل زد. إنها محاولة لإعادة برمجة الوعي في عالم مفتوح.

هذه الحملة لم تستهدف السياسيين فقط، بل وعي المراهقين، وسلوك المستخدمين، ونتائج الخوارزميات.

 إنها حرب سرد… داخل عقولنا.