يمثّل مقال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني في صحيفة وول ستريت جورنال محاولة محسوبة بدقة لإعادة تعريف الحرب في السودان داخل إطار سردي، يعيد ترتيب مكونات المشهد، بما يخاطب النخبة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة. فاختيار الصحيفة نفسها ليس تفصيلاً عابرًا؛ فهي الواجهة التي يتشكل عبرها وعي قطاعات واسعة داخل مؤسسات صنع القرار الأمريكية. وفي هذا السياق، يتبنّى البرهان خطابًا، يُعيد بناء الحرب من أساسها، بوصفها مواجهة بين دولة تسعى إلى الحفاظ على وجودها وبين ميليشيا متمرّدة مدعومة من أطراف إقليمية، لا كصراع نفوذ بين جنرالين أو تنافس داخل الجيش، كما يرد في بعض التحليلات. ويُدرك البرهان، أن قبول روايته أو رفضها لدى واشنطن يرتبط بكيفية تقديمه لنفسه بوصفه رأس الدولة وصمام أمانها، لا مجرد قائد عسكري أحد أطراف الحرب.
من هنا يبدأ المقال في صياغة مقولته الأساسية: الدعم السريع ليس شريكًا في الصراع، بل خصمًا للدولة ذاتها، بينما الجيش يمثل الإطار القانوني والمؤسسي الوحيد القادر على حماية وحدة السودان. وبهذا يحوّل البرهان النقاش من سؤال “من أخطأ؟” إلى سؤال “من يمثل الدولة؟”، ومن سؤال “ما أسباب الحرب؟” إلى “ما الذي يهدد السودان اليوم؟”. وهو بذلك يقدّم تصورًا، يجعل أي دعم لقيادته دعمًا للدولة نفسها وأي ضغط عليه ضغطًا على بنيتها، بينما أي مساواة بينه وبين الدعم السريع تعني في حد ذاتها الاعتراف بانهيار مفهوم الدولة كوحدة سياسية وقانونية. ولأجل تثبيت هذه المعادلة كان ينبغي تجاوز التعقيدات السياسية التي سبقت الحرب، وهو تجنّب لا يهدف إلى طمس السياق، بل إلى تفادي فتح ملفّات، قد تُستغل فورًا لتقويض مضمون المقال أو لإعادة إنتاج سجالات قديمة، لا تخدم هدفه المركزي المتمثّل في بناء مقاربة سياسية مشتركة بين الخرطوم وواشنطن، فالإغراق في تفاصيل المرحلة الانتقالية أو صراعات النفوذ السابقة، كان من شأنه أن يعمّق التضارب السردي، ويشتت رسالة المقال، خاصة في لحظة يسعى فيها البرهان إلى تثبيت تعريف محدد للصراع، يصلح أن يكون أرضية للتفاهم الأمريكي– السوداني.
رغم ذلك، ما زالت بعض النقاط المثارة في المقال محل تشكيك داخلي، وفي مقدمتها الرواية الخاصة بمرحلة ما بعد سقوط البشير، وحتى اندلاع الحرب. فالجيش لا يمكن تجاهل دوره في الانحياز لثورة ديسمبر، لكنه كذلك يتحمل جزءًا من مسئولية المسار السياسي المرتبك الذي أعقب ذلك. كما أن محمد حمدان دقلو “حميدتي” قائد الدعم السريع ظلّ يسعى لإحياء نفوذ النظام السابق عبر الشبكات الأهلية والمسلحة. وكان يمكن للمقال لو تجاوز مستنقع الروايات السابقة، أن يقدّم رؤية أكثر واقعية للمستقبل، خاصة وأن الولايات المتحدة شاركت بالفعل في محادثات سابقة عبر مبعوثتها (مولي في)، ولتجنب السرديات المتضاربة والبناء على الحلول الممكنة والمفضية إلى الاستقرار.
وفي بناء هذا السرد، يعتمد المقال على لغة مشحونة بالقوة، تضع القارئ أمام حجم الانتهاكات التي ارتكبها الدعم السريع سواء عبر الإشارات إلى التطهير العرقي أو الجرائم واسعة النطاق أو تهديد الاستقرار الإقليمي. وهذا الاستخدام المتقن لا يهدف فقط إلى نقل صورة المأساة الإنسانية، بل إلى وضع الميليشيا في موضع “الخطر الوجودي” الذي يصعب التعامل معه كطرف سياسي قابل للتسوية. فالرسالة واضحة: السودان لا يخوض حربًا تقليدية، يمكن معالجتها بشروط متوازنة، بل يواجه تهديدًا، يستدعي تفكيك البنية الميليشياوية بالكامل، لا التفاوض معها على ترتيبات تقاسم سلطة.
وفي هذا السياق، يبرز شرط البرهان لتفكيك التشكيل الميليشياوي كركيزة أساسية لأي سلام ممكن، لا كمقترح تفاوضي عابر. فإزالة الهيكل شبه المستقل للنشاط الميليشياوي مع استثناء محدود لإمكانية دمج عناصر “غير متورطة” بعد تدقيق مهني، يأتي بوصفه طرحًا منسجمًا مع المعايير التي اتبعتها دول أخرى، خرجت من نزاعات مشابهة. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الموقف يحظى بقبول دولي واسع؛ لأنه يتوافق مع قناعة راسخة مفادها، أن أي سلام يحتفظ بميليشيا منظّمة إلى جانب الدولة هو سلام مؤجل لا غير.
وفي مستوى آخر، يصوغ البرهان رسالته لواشنطن عبر معادلة حادة: الاستقرار يمر عبر دعم الدولة، والفوضى تأتي من منح الميليشيا شرعية بأي شكل. وهذا الخطاب لا يعكس فقط قراءة البرهان للواقع السوداني، بل يتقاطع مع فلسفة الإدارة الجمهورية الحالية التي تنظر إلى العالم من زاوية التحالفات الأمنية الصلبة والأدوار الواضحة. انطلاقًا من ذلك، يقدّم البرهان الرئيس ترامب بوصفه شخصية، تمتلك القدرة على مواجهة الأطراف الإقليمية الداعمة للدعم السريع، فاتحًا الباب أمام اصطفاف محافظ، يرى في السودان ساحة اختبار للنفوذ الإيراني والروسي. ويعمد المقال إلى إعادة تموضع السودان داخل قائمة الاهتمامات الأمريكية: أمن البحر الأحمر، مكافحة الإرهاب، حماية الاستقرار الإقليمي، ودفع الخرطوم بعيدًا عن أحضان موسكو وطهران، وكلها ملفات تتناغم مع أولويات واشنطن الراهنة.
ولا يتوقف البرهان عند البعد الأمني، بل يقدّم السودان كفرصة اقتصادية واسعة عبر فتح الباب للشركات الأمريكية للمشاركة في إعادة الإعمار بعد الحرب. وهذا الطرح يتماشى مع التصور الذي يفضّله ترامب والقوى الاقتصادية المحيطة به، حيث يصبح الاستثمار أداة نفوذ واستقرار في الوقت نفسه. ويتعمد البرهان التذكير بانضمام السودان إلى الاتفاقات الإبراهيمية، في إشارة واضحة إلى انتمائه لمحور اعتدال إقليمي، يحظى بقبول أمريكي واسع، ويقدم ضمانات إضافية للأمن الإقليمي. وهذه عناصر تشكل “جزرة استراتيجية”، تخاطب التيار اليميني الحاكم في الولايات المتحدة.
وفي معرض الحديث عن مستقبل السودان، يُبرِز المقال نقطة شديدة الأهمية: التزام الجيش بالانتقال الديمقراطي. ورغم أهميتها، لم يتوسع المقال، بما يكفي في شرح كيفية تصور الجيش لهذا الانتقال، أو طبيعة الضمانات المؤسسية التي يمكن أن يقدمها للحيلولة دون تكرار أزمات الماضي. وكان يمكن لهذا التوسع أن يعزز رسالته؛ لأن تقديم رؤية واضحة لمرحلة ما بعد الحرب— توضح علاقة المدنيين بالمؤسسة العسكرية، وكيفية بناء مؤسسات الدولة، وترتيب أولويات الإصلاح— كان سيجعل المقال منصة سياسية متكاملة، لا مجرد بيان موقف. فالجيش بوصفه الحامل الأخير لوحدة الدولة، يمتلك القدرة على تقديم تصور لانتقال ديمقراطي واقعي، يتدرج وفق شروط الاستقرار الأمني وضرورات بناء المؤسسات، وكان إظهار هذه الرؤية سيمنح المقال وزنًا إضافيًا لدى واشنطن، ويحول البرهان من مجرد قائد عسكري في حرب إلى صانع تصور سياسي قابل للتطبيق.
وتأتي خاتمة المقال؛ لتلخص هذا البناء السردي؛ إذ يسمي البرهان “الحقيقة” بوصفها الحليف الأهم للسودان، في إشارة إلى أن السردية التي يقدمها ليست مجرد رواية ضمن روايات، بل الإطار الذي ينبغي أن يستند إليه المجتمع الدولي في موقفه من الحرب. وقد بدا واضحًا، أن واشنطن تعاملت مع المقال بجديّة، إذ صدر رد أمريكي سريع، يدعو الحكومة السودانية إلى الاعتراف الفوري بالانتهاكات، ووقف أي استخدام للأسلحة الكيميائية والتعاون الكامل مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، في رسالة يمكن فهمها بوصفها محاولة لانتزاع مكاسب إضافية، وضمان الالتزام بالمعايير الدولية مع دعم السردية التي يقدمها البرهان.
وعلى مستوى الإعلام، جاء التحول في تغطية وول ستريت جورنال، داعمًا لهذا الاتجاه. فالصحيفة التي وصفت الحرب عند بدايتها، بأنها صراع بين جنرالين أصبحت اليوم تركز على المأساة الإنسانية والانتهاكات الواسعة، مستندة إلى تحقيقات وشهادات ميدانية منذ زيارتها السودان في مايو 2024، ومتأثرة كذلك بتقييمات أمريكية لاحقة ربطت الدعم السريع بدعم خارجي وبجرائم محتملة. هذا التحوّل الإعلامي يعكس انتقال واشنطن من النظر إلى الحرب كصراع داخلي إلى النظر إليها كأزمة إنسانية وأمنية متعددة المستويات، وهو تحول يخدم السردية التي يقدمها البرهان، ويمنحها غطاءً ضمنيًا.
ومع كل هذه المكاسب، فإن الانفتاح أمام الصحافة الغربية يحمل مخاطره، لأن الإعلام يمكن أن يتحول إلى أداة ضغط سياسية، كما حدث في حالات سابقة، عندما استندت واشنطن إلى تقارير صحفية حول استخدام غاز الكلور لتبرير عقوبات لاحقة. وهذا يذكّر بأن العلاقة بين الدولة والصحافة الدولية ليست خالية من التوتر، وأن النفاذ الإعلامي قد يتحول بسرعة إلى سلاح سياسي داخل دوائر القرار.
وتدرك واشنطن في نهاية المطاف، أنها لا تمتلك ترف المغامرة في الملف السوداني. فهي تنظر إلى الجيش باعتباره المؤسسة الوحيدة القادرة على منع الانهيار الداخلي، وكبح القوى الأيديولوجية التي قد تدفع السودان نحو تحالفات معاكسة لمصالحها. كما تدرك أن البرهان يبقى الشخصية الوحيدة التي تستطيع ضبط التوازنات داخل المؤسسة العسكرية، ومنع انقسامات خطيرة قد تفتح الباب أمام صراعات داخلية، تهدد بقاء الدولة نفسها. ويُدرك الأمريكيون، أن البدائل الأخرى— وعلى رأسها حميدتي— تفتقر إلى الشرعية المؤسسية والخبرة السياسية والبنية الإدارية التي يمكن أن تبنى عليها دولة قابلة للحكم، فضلًا عن تورط قواته في انتهاكات واسعة، تجعل من الصعب تقديمه كشريك موثوق.
وفي ظل هذه المعطيات، تتضح معادلة واشنطن: بقاء البرهان في المشهد ضرورة للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، على أن تعمل على ضغط دبلوماسي واقتصادي تدريجي. فأي إطاحة مفاجئة؛ قد تقود إلى فراغ سياسي وعسكري، لا يمكن احتواؤه، بينما لا يمثل الدعم السريع خيارًا قابلًا للثقة. ولهذا يصبح الحفاظ على البرهان— ليس بوصفه الخيار المثالي، بل بوصفه الخيار الممكن— عنصرًا أساسيًا في مقاربة واشنطن؛ تمهيدًا لانتقال تدريجي نحو ترتيبات سياسية أكثر شمولًا، عندما تسمح الظروف بذلك مع استثمار الفرصة في تعزيز الشراكات الاستراتيجية وحماية الاستقرار الإقليمي، ودفع السودان نحو محور اعتدال إقليمي متوافق مع المصالح الأمريكية، بما في ذلك الاستثمار الأمريكي وإعادة الإعمار ومكافحة الإرهاب.






