قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية ومجلس الخبراء والمحليات في إيران، بدت ملامح مواجهات داخلية عاصفة كأنها مخاض لصراع على مستقبل ظهران بعد خامنئي. الطلقة الأولى جاءت عبر تسريب تسجيل صوتي لوزير الخارجية محمد جواد ظريف، يمتد لنحو ثلاث ساعات. يتحدث فيه عن أسرار وقضايا من أبرزها تدخل قائد “فيلق القدس” السابق في الحرس الثوري قاسم سليماني في السياسة الخارجية.
التسجيل الذي يمتد لنحو ثلاث ساعات حصل عليه موقع “إيران إنترناشيونال” التابع لشبكة تليفزيون معارضة للنظام الإيراني تبث من لندن.
خلال الحوار هاجم “ظريف” قاسم سليماني الذي لقي حتفه العام الماضي في عملية اغتيال جرى تنفيذها بطائرة مسيرة. وقال: “في كل مرة تقريباً كنت أذهب فيها للتفاوض، كان سليماني يفرض شروطه ويوجه بأن تأخذ نقاط بعينها في الاعتبار”. ويزيد ظريف بأن “ضحى بالدبلوماسية كثيرا لصالح (ساحة المعركة)”.
وشكل مقتل قاسم سليماني في يناير 2020 أبرز الخسائر للتيار المتشدد. وأعطى فرصة قوية لظريف في التعامل مع الملفات الخارجية، يمكن أن تسفر عن اتفاق نووي جديد ورفع العقوبات عن طهران. لذلك يمكن التنبؤ بأن ظريف سيكون الأكثر حضورا في المشهد الإيراني.
كان من المفترض أن تُنشر هذه التصريحات بعد انتهاء ولاية الحكومة الإيرانية الحالية، إلا أن شيئًا ما جرى ترتيبه من خلف ظهر وزير الخارجية صاحب الشعبية الكبيرة في الأوساط الإيرانية.
يقول مراقبون إن التسريب يهدف إلى حرق “ظريف” وتقويض شعبيته في وقت يرجح البعض أن يطرح نفسه مرشحًا. بدا ذلك واضحًا من تصريحات المسؤولين المحسوبين على التيار المحافظ: “تسريبات جزء من حلقات الصراع” لكن يبقى ظريف موجودا وقد يحول خسائر التسريب الى مكاسب!
حرب خلافة خامنئي
يقول علي رجب المتخصص في الشأن الإيراني إن “ظريف” هو أحد السياسيين الذي قد يكون غير مفضل لدى آية الله علي خامنئي. لكن يبقى أكثرهم ثقة في عبور حقل العقوبات المفروضة على إيران إذا وضع في إطار الصراع الداخلي بين المتشددين والإصلاحيين.
وأضاف رجب في تصريح خاص لـ”مصر 360″ أن جواد ظريف وحسن روحاني يمثلان ثنائي الإصلاحيين القوي في مواجهة ثنائية “الحرس الثوري- إبراهيم رئيسي”. متابعا: “هذا يبقى صراعا في حدود الأمن، من أجل النظام وتحت سيطرة المرشد خامنئي”.
لا يمكن اجتزاء التسريبات وما جاء فيها بعيدًا عن الانتخابات الرئاسية. فهي جولة ضمن صراع كبير يدور حول مستقبل إيران بعد المرشد خامنئي المصاب بسرطان البروستاتا.
المواجهة بين “روحاني-ظريف” و”الحرس الثوري- إبراهيم رئيسي” هي صراع على من يحكم طهران عقب وفاة المرشد فهي “حرب خلافة خامنئي”.
ظريف المنافس الأقوى
ظريف ابن العائلة الغنية، متهم بالانتماء إلى اليسار الإسلامي في زمن الشاه، والحاصل على تعليمه في الجامعات الأمريكية. فقد عرف بقدرته كدبلوماسي وسياسي محنك، كان قد قدم استقالته من الخارجية في فبراير 2019، بعد زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران دون علم وزارة الخارجية.
وفي التسربيات الأخيرة كشف عن مدى تدخل الحرس الثوري في السياسية الخارجية الإيرانية خاصة في عمليات المفاوضات مع الدول. وهو ما يهدف إلى تقييد تحركات ظريف الذي على ما يبدو كان قادرًا على التعامل مع هذه الضغوط عبر بوابة “ثقة المرشد”.
وفي هذا السياق، يقول الباحث علي رجب إن استهداف ظريف من المتشددين والحرس الثوري هو استهداف قديم. وذلك منذ بدأ مفاوضات الاتفاق النووي مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. وشهدت خلال هذه المرحلة تلاسنا حاد بين الجانبين. لكن “رجب” يرى أن “ظريف الذي كان مدعوما من المرشد استطاع أن يحقق انتصارا بعقل المفاوض الفارسي في التوصل لاتفاقية العمل المشترك”.
وتابع: “ظريف رغم تأكيده عدم خوض الانتخابات الرئاسية، إلا أنه يشكل المنافس الأبرز والأقوى بين صفوف الإصلاحيين لخلافة حسن روحاني. وذلك في ظل مساعي المتشددين لدعم وتذكية رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي”.
لماذا يتم استهداف “ظريف”؟
يفتقر نظام الجمهورية الإسلامية إلى شخص مشابه لظريف في كسب ثقة خامنئي. وعلى الرغم من المعارضة الواضحة للحرس الثوري واستخبارت مكتب المرشد الأعلى، لكنه تمكن في السنوات الثماني الماضية من قيادة الخارجية الإيرانية. بما يشكله من عقل “الفارسي” المنتصر في المفاوضات وليس المنهزم في الميدان العسكري، وهي مقولة أثبتها الاتفاق النووي السابق.
يمكن تلخيص استهداف المتشددين لـ”ظريف” في ثلاثة مسائل، الأولى أنه يشكل المنافس الأبرز في الانتخابات الرئاسية الإيرانية. والثانية أن نجاح الحرس في إزاحة ظريف يعني زحزحة قوة الإصلاحيين في صراعهم على خلافة المرشد. ذلك أن روحاني يشكل واحدًا من أقوى المرشحين لخلافة خامنئي.
أما الثالثة فتتمثل في إبعاد ظريف من الخارجية وهزيمة الإصلاحيين في الرئاسة ضربة مزدوجة للمتشددين. ويعني انفراد الحرس الثوري بتشكيل النظام الإيراني وتحديد المرشد القادم، ويعد “رئيسي” الحليف الأبرز للحرس الثوري.
لذلك، فإن احتدام الصراع في إيران مرجحا خلال المرحلة المقبلة. وسيكون الاتفاق النووي ثم الانتخابات الرئاسية، هما المؤشران لما سيكون عليه النظام الإيراني وكفة من سترجح “ظريف-روحاني” أم “الحرس الثوري- رئيسي”.
كيف ترى المعارضة الإيرانية الأزمة؟
رغم احتفاء المعارضة الإيرانية المتواجدة في الخارج بالتسريب، فإنهم لا ينتظرون منه كثيرًا خاصة أن الحديث جاء بصيغة العتاب والرغبة في رفع كفاءة النظام ليس التقليل منه.
وقال نوردي زاده المعارض الإيراني المقيم في لندن، إن التسريبات كشفت عدم وجود مركز واحد في مؤسسة الحكم الإيراني. كما أن المرشد الأعلى آية الله على خامنئي ليس الحاكم المطلق، في إشارة إلى وجود خلاف دائر داخل أروقة الحكم. لذلك يرى أن العسكريين هم من يحكمون وأن هناك صراعا قوىا داخل النظام.
فيما ذهب البعض إلى أن التسريب يمكن أن يكون رسالة من “ظريف” نفسه إلى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. يريد قائد الدبلوماسية الإيرانية حثّ واشنطن على اغتنام فرصة المحادثات الحالية بين الطرفين من أجل إحياء البرنامج النووي.
تقوية شوكة الإصلاحيين
في سياق مواز، يرى أسامة الهتيمي المتخصص في الشأن الإيراني، إن التسريبات تقوي شوكة الجناح الإصلاحي المنتمية إليه الحكومة. وذلك رغم ما تحاول أن تروج له الحكومة من أنها تشعر بالاستياء واعتبرتها “مؤامرة” وإعلان حسن روحاني فتح التحقيق.
وأضاف الهتيمي في تصريح خاص لـ”مصر 360″ أن أهمية التسريبات كونها تأتي قبيل الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها بعد أسابيع. وذلك في الوقت الذي يتردد فيه أن يخوضها بعض المحسوبين على الحكومة الحالية وربما أحد المقربين من الوزير ظريف نفسه. كما يتزامن التسريب مع جولات التفاوض المنعقدة في فيينا حول العودة للاتفاق النووي الذي يسعى الجناح الإصلاحي إلى تحقيق تقدم ملموس فيه.
التسريب الذي جاء في ثلاث ساعات هو من بين سبع ساعات سجلها أحد الصحفيين مع الوزير ظريف. لذلك يرى الهتيمي أن المسربون قصدوا تسليط الضوء على نقاط بعينها، أهمها هيمنة الحرس الثوري على الخارجية الإيرانية. ويتابع: “رغم أن مثل هذه الأقوال تساهم في تقزيم وزارة الخارجية. إلا أنها تلقي باللوم على الحرس الثوري الذي يقوده محافظون بشأن أي إخفاق دبلوماسي محتمل في هذ الملف”.
مغازلة المرشد الأعلى
وأردف: “ظريف الذي وجه نقدًا شديدًا للتدخلات الأمنية في العمل الدبلوماسي، حرص أيضا على تأكيد انتمائه للنظام الثوري”. قال ظريف بلغة حاسمة: “من يهاجمونني في الداخل عليهم أن يسألوا عني حسن نصر الله هل أنا خائن أم ثوري؟”. تلك كلمات لا شك تغازل المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الذي وجه له بعد ذلك خطابا صريحا. عندما قال: “كلنا ثوريون مثل القائد الأعلى، لكن تم تقسيم المهام؛ أحدنا يكون دبلوماسيًا والآخر عسكريًا أو اقتصاديًا، قوة إيران في ثوريتها”.
لذلك يرى الهتيمي أن التيار الإصلاحي سيسعى وبشكل جدي لتوظيف هذا التسريب في خطابه الجماهيري خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة. فضلاً عن أنها ستخفف بطبيعة الحال من الأحكام الجماهيرية بحق هذا التيار في حال أخفق في مفاوضات فيينا.