عرفت الجماهير العربية الإعلامي اللبناني جورج قرداحي باعتباره مثقفًا خفيف الظل، يُلقي أسئلته على الطامحين في الوصول إلى المليون، ويتلاعب بهم مُرددًا سؤاله الشهير الذي صار علامة مُسجلة باسمه “جواب نهائي؟”، قبل أن يُلقي الحقيقة التي قد تُفجّر السعادة في قلب المتسابق أو تطفئ ابتسامته. في كلا الحالتين كانت الجماهير تُردد الإجابة الصحيحة أمام شاشات التلفاز ملوحين بقبضاتهم في الهواء وهم ينتظرون تأكيد المذيع ذو الصوت الرخيم.
انتهت مواسم “من سيربح المليون” بعدما صنعت من قرداحي أسطورة إعلامية. استغل نجاحها للاستمرار في عدة برامج، وإن كانت أقل بريقًا، لكنه ظّل حاضرًا في المشهد الإعلامي العربي، عبر المحاضرات والمؤتمرات، وكضيف يظهر على شاشات معروفة بالأكثر مشاهدة، ليروي لمحات من حياته، ويُلقي تصريحات تثير الجدل حول الفن والسياسة.
في مطلع سبتمبر من العام الماضي أعلن قرداحى في تصريحات صحافية. أنه يرفض منصب وزير الإعلام اللبناني في هذا العهد: “لا أرغب في تعديل الخطأ ولا التعاون فيه”.
وقتها، كانت بيروت تلملم جراحها جراء حادثة انفجار المرفأ التي أودت بحياة العديد من البشر وكبّدت البلاد خسائر اقتصادية ضخمة زادت من شقاء أهلها. وأشار إلى رغبته في أن يكون لدى بلاده قوة كبرى تتحكم في زمام الأمور.
مرشح “المردة”
أما في مطلع سبتمبر الجاري، فقد أعلن الأمين العام لمجلس الوزراء اللبناني، محمود مكّية. عن المراسيم الموقّعة من قبل الرئيس ميشال عون ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي، والأسماء المشاركة في الحكومة الجديدة. لتُفاجأ الجماهير بوجه آخر للمذيع اللطيف، وهو توليه حقيبة الإعلام. وكان قد عرف عن قرداحي قربه من رئيس الجمهورية ميشال عون، وطرح اسمه كمرشح للبرلمان على لائحة الرئيس في دورات انتخابية سابقة. إلا أنه بعد تولي عون رئاسة الجمهورية، ابتعد وأصبح مقرباً أكثر من رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية الذي رشحه للوزارة. وفق ما صرّح نائب كسروان فريد هيكل الخازن، عضو كتلة فرنجية، الذي أعلن أن صديقه الإعلامي قرداحي. مرشحهم لهذه الوزارة.
آراء صادمة
جاء خبر الوزارة إلى المذيع المنخرط في عمله في دبي بعد وصوله من مدينة لشبونة البرتغالية. التي سجل فيها حلقة خاصة من برنامجه “من سيربح المليون” مساء الأربعاء الماضي التي ستعرض 18 سبتمبر الجاري. احتفالاً بالذكرى الثلاثين لتأسيس مجموعة MBC. هكذا جاءت أول تصريحاته لينفي انتهاء مسيرته الإعلامية، مؤكدا في هذا الصدد أن الإعلام هو وظيفته ومهنته.
قرداحي، الحاصل على إجازة في العلوم السياسية، دخل عالم التلفزيون بالصدفة من خلال برنامجه الشهير. رغم قيام الشركة البريطانية المنتجة للبرنامج بإجراء مقابلات عدة مع شخصيات ونجوم من العالم العربي لتقديم البرنامج، قبل قرداحي وقع الاختيار على فنان عربي معروف، إلا أن الشركة المالكة رفضته. رغم أنه اتخذ هذه الخطوة بمبدأ “عاوز ومستغني”. حسبما قال هو نفسه في واحد من برامجه التلفزيونية. أعطاه الإعلام “أكثر مما يستحق” كما قال، حتى أنه لم يخض التجارب السياسية بشكل فعلي إلا عندما ترشح للمجلس النيابي عام 2013، إلا أن الانتخابات تأجلت.
وفي أعقاب توليه منصبه رسميًا. طالب وسائل الإعلام بعدم استضافة السياسيين “الذين يبشروننا بجهنم”، وفق تعبيره، واصفا لبنان بأنه “في حالة هبوط اضطراري”. وأن من واجبهم بعث نفحة أمل وإيجابية لدى الناس: “من يريدون أخذ لبنان إلى جهنم عليهم أن يهدأوا. لأننا لا نريد الذهاب بالبلد إلى جهنم وليذهبوا هم وحدهم.
وأضاف: نحن نريد أن نحاول ونعود بلبنان من جديد”. بينما رد على وصفه في مواقع التواصل الاجتماعي بأنه صار وزيرًا في حكومة “من سيسرق المليون”!، بدعوة إلى الهدوء المؤقت.
رغم لباقته في برامجه، إلا أن قرداحي، البالغ من العمر 70 عامًا، معروف بآرائه السياسية الصادمة، فوصف من قبل وضع الاعلام العربي في ظل التغيرات التي طالته في السنوات الاخيرة بالقول “كما تكونون يكون إعلامكم”. لم يكن يقصد الحال الإعلامي فقط، فهو يشعر بسخط كبير تجاه العديد من الأوضاع العربية، أولها بلده الذي أضحى اقتصاده على حافة الانهيار بسبب أزمة المديونية التي زادت بسبب الأزمات السياسية وجائحة كورونا، حتى وصل حجم الدين العام أكثر من 150 % من الناتج الإجمالي، ليكون لبنان صاحب واحد من أعلى معدلات المديونية في العالم.
يخالف قرداحي رأي البعض في أن الإعلامي أو الفنان هو ملك للجماهير وللناس بشكل عام. ولا يحق له أن يتخذ مواقف تجرح شعور أي إنسان. يرى أن النجم لا يجب عليه أن يخفي رأيه. خصوصا إذا كان موقفه مفيداً لمن حوله ويقول: “على هذا النجم مسؤولية أن يسدي فكرته إذا كانت سديدة فعلًا. لذلك، واجه عاصفة من الغضب والانتقاد تصل إلى الاتهامات، بعدما أعلن تأييده لنظام الرئيس السوري بشار الأسد في مواجهة خصومه من المعارضة والتنظيمات المسلحة التي انتشرت في البلاد منذ اندلاع الانتفاضة الأولى في 2011.
برر وزير الإعلام اللبناني الجديد دفاعه عن سوريا -وقتها- من منطلق الحفاظ على وحدتها كدولة عربية وليس عن نظامها، لأنه يعتبرها العمود الفقري للعرب، بعد فترة تم فيها “تحييد مصر وتدمير العراق، وفي ظل مؤامرة تهدف إلى تقسيم سوريا وتدميرها اقتصاديًا واجتماعيًا”
وحسب تصريحه الذي أكد فيه أنه لا يدافع عن أشخاص، بل يدافع عن سوريا بلدًا موحدًا. معتبرا أن تدمير سوريا سيكون له ارتدادات شديدة على جميع الدول المجاورة وفي طليعتها لبنان. كان نتاج تلك التصريحات أن قاطعته دول الخليج وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
أزمات متلاحقة
يشعر اللبنانيون، خاصة العاملين في حقل الإعلام منهم. بخيبة أمل، حتى وزير إعلامهم الجديد، والذي كان قبل توليه منصبه وصف وضع البلد بأنه “يخرج من حفرة يقع في دحديرة” حسبما يقول المثل المصري الشهير. أو كما يقول الفرنسيون الذين يُثّمن علاقتهم ببلاده “المصائب لا تأتى فرادى.. بينما تأتى جماعة”.
يعيش أبناء البلد الجميل في أزمات متلاحقة. أولها شبح الإفلاس الذي جعل البنوك تصادر أموال الودائع وتعطي أصحابها مالهم بالقطّارة. ثم تفجير مرفأ بيروت الذي كان كارثة على لبنان واقتصاده المنهار، وبين هذه الكوارث يتمزق الإعلام اللبناني وفق الطوائف الحاكمة.
إعلام موالي للطوائف
لا توجد في لبنان وسائل إعلام مستقلة بشكل كامل. بل هي غالباً موالية لطرف سياسي معين، أو على الأقل مؤيدة لخط سياسي ما، حيث تُمثل الطائفية السياسية المتجذرة في النظام السياسي للبلاد منذ اتفاق الطائف، والذي نص على آلية لتجاوز الطائفية السياسية؛ وهو أمر يبدو للمراقب الخارجي عاكسًا لمبادئ الديموقراطية والمساواة والتعددية التي تميز البلد عن جيرانه. أما بالنسبة للمواطن اللبناني فإن هذا النظام يعني أن المواطن يتمتع بحقوق ديمقراطية بقدر ما ينتمي الى طائفة محددة.
تأثير الانهيار الاقتصادي على الإعلام اللبناني
مع الانهيار الاقتصادي، تعاني وسائل الإعلام اللبنانية أزمة مالية خانقة منذ سنوات، ترتبط بشكل أساسي بتوقف التمويل السياسي الداخلي والعربي، عدا عن ازدهار الصحافة الرقمية وتراجع عائدات الإعلانات، ما دفع الكثير من وسائل الإعلام المكتوبة والورقية إلى الإغلاق مثل صحيفة “السفير” التي أعلقت أبوابها نهاية العام 2016 جراء مصاعب مالية بعد 42 عاماً من تأسيسها؛ بينما توقف صدور النسخة الورقية من صحيفة “المستقبل”، كما أغلقت صحيفة “الحياة” مكتبها الرئيسي في بيروت.
كذلك قامت صحيفة “النهار” بتسريح عدد كبير من موظفيها بعد أزمة رواتب امتدت لأشهر، وفي مطلع العام الماضي توقفت طباعة صحيفة الدايلي ستار. وهي الوحيدة الناطقة بالإنجليزية في لبنان.
وبرّرت صحيفة الدايلي ستار التي تأسست قبل 68 عاماً، قرارها بـ”التحديات المالية التي تواجه الصحافة اللبنانية والتي فاقمها تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد”.
وقالت إنه جاء بعد “تراجع في عائدات الاعلانات إلى حدّ توقفها في الربع الأخير من العام 2019. كذلك توقفت مجلة “إيبدو” الناطقة بالفرنسية والتي تأسست عام 1956 عن الصدور.
الإعلام المرئي
بلغت الأزمة كذلك الإعلام المرئي، لتضرب في عام 2019 صحيفة وقناة المستقبل. التي كان سعد الحريري رئيس الوزراء السابق وزعيم تيار المستقبل وصفها بأنها “تجربة إعلامية مميزة كرست الجهد والإمكانات والكفاءات لخدمة لبنان والقضايا العربية”.
بعدها أعلنت إذاعة “راديو 1” الناطقة باللغة الإنجليزية. في فبراير من العام الماضي، عن توقف البثّ بعد نحو 40 عاماً من انطلاقها. ثم أعلنت المؤسسة اللبنانية للإرسال “إل بي سي” أنها ستنتقل من البثّ المجّاني المفتوح إلى البثّ المشفّر قريباً، ليتوجّب على المشاهدين دفع مبلغ مالي لمشاهدتها.