أثار إعلان الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، رفض المؤسسة الدينية رسميًا، مشروع دمج الديانات الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية) في دين واحدة أطلق عليه «الدين الإبراهيمي»، حالة من الجدل الواسع محليًا وعربيًا. إذ اختلف الكتاب والمفكرون بين دوافع هذا الموقف. فرأى البعض أن أهميته دينية في دفاعه عن الإسلام، فيما رأى آخرون أهمية سياسية تكمن في رفض مشروع التطبيع مع إسرائيل.
الإبراهيمية في أساسها مشروع «إسرائيلي-أمريكي»، يهدف في حقيقته إلى فرض «التطبيع»، الذي هرولت نحوه عدة دول. خاصة بعد إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عنه في أكتوبر 2020، أثناء توقيعه اتفاق السلام بين دولة الإمارات والبحرين وإسرائيل بشكل رسمي، فيما أطلق عليه «اتفاق أبراهام».
حينها، وصف ترامب الاتفاق بأنه عملية إعادة بناء جديد للشرق الأوسط، بتوحيد شركاء إسرائيل. وهو الهدف الاستراتيجي الذي تسعى له وتخطط دولة الاحتلال، منذ ظهورها في المنطقة.
قبل ذلك بخطوات أعلنت دولة الإمارات عن اتفاقية لبناء صرح يجمع بين الديانات السماوية الرئيسية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلامية. فيما يُدعى بيت العائلة الإبراهيمية. وقد شيدت له مقرًا في جزيرة السعديات بالعاصمة أبوظبي. وهو المشروع الذي كشفت اللجنة العليا للأخوة الإنسانية عنه في اجتماعها العالمي الثاني بمدينة نيويورك الأمريكية في 20 سبتمبر عام 2019. ويضم معبدًا وكنيسة ومسجدًا تحت سقف صرح واحد. مشكلاً للمرة الأولى مجتمعًا مشتركًا، لتعزيز ممارسات تبادل الحوار والأفكار بين أتباع هذه الديانات، وفق بيان الإعلان عن المشروع.
ثوُب الإبراهيمية
يذهب المؤرخ السياسي فلسطين عبد القادر ياسين إلى أن التطبيع الذي لبس ثوب الإبراهيمية الجديدة لم يعد مجرد مشروع سياسي. بل صار أمر واقع تتداوله الدول الموقعة عليه. فهناك تبادل ثقافي واجتماعي، وتكامل عسكري واقتصادي فيما بين هذه الدول. وهو فكرة يراد منها تمرير أن إسرائيل جزءًا من تاريخ المنطقة العربية. وأنها شريك لنا أيضًا في دين واحد.
وبناءً عليه، يرى ياسين، أن أي علاقة بين هؤلاء المطبعين -حسب وصفه- وعدو الأمة، تعد مخالفة للوضع القائم.. وهو يؤكد أن المواجهة ستستمر وتظل قائمة. وأن مروجي التطبيع إما تاجر يتوهم أن تجارته مع إسرائيل رابحة، أو فنان أفلس، أو طامع في منصب يرى في ذلك طريقًا للوصول. وكلهم خاسرون، على حد قوله.
نحن لا نختلف مع إسرائيل على معتقد ديني وعقائدي. بل على احتلالهم أرضًا عربية ليست لهم. وعلى قتلهم أبناءنا وتطلعهم إلى تمرير مشروعهم الاستيطاني من النيل إلى الفرات ومن الخليج للمحيط، كما يقول ياسين، الذي يصف مشروع «الدين الإبراهيمي» باستغلال إسرائيلي للدين في السياسة، بمساندة أمريكية، كسلاح جديد في مواجهة مناهضة مشروعها الاحتلالي الاستيطاني. وهو أمر مفضوح.
الإبراهيمية.. من المواجهة إلى التطبيع
تعمل بعض المنظمات الصهيونية وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية على تغيير الواقع. وذلك بتزييف الوعي الذاتي والاجتماعي لشعوب المنطقة العربية. وهي تحاول نقل قضية الصراع العربي الإسرائيلي من مرحلة المواجهة إلى التطبيع. ثم من التطبيع إلى «التعايش والتكيف». وقد لعبت هذه الأجهزة بما تمتلكه من ترسانة إعلامية عالمية على استخدم مصطلح «الإبراهيمية» وتوظيفه والترويج له، على أنه دعوة لنبذ الخلافات والتسامح والتعايش والاندماج بين أتباع الديانات الثلاث، تحت مظلة دين واحد، يعود أصله إلى النبي إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء.
تشير دراسة لـمركز الدراسات والوحدة العربية أن الإبراهيمية عملية توظيف سياسي للأبعاد الدينية والتاريخية. ما يسهل تمرير أجندة إسرائيل السياسية تحت غطاء ديني وفق مراقبين. فاتفاق «أبراهام» هو عملية ضرب لتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. وذلك بغرض تجريده من إطاره التاريخي والظروف السياسية والاجتماعية التي أدت إلى ولادة الكيان الصهيوني في المنطقة. ومن ثم اختزاله في أن أبوة النبي إبراهيم عليه السلام تمثل مشكلة في الأديان الثلاثة يجب حلها وتجاوزها لتحقيق السلام.
أرض المسار الإبراهيمي
نزح إبراهيم النبي من أرض «كلدان بالعراق إلى كنعان-فلسطين حاليًا» هربًا من اضطهاد قومه. وعندما اشتد الجفاف والقحط نزل إلى أرض مصر بحثًا عن الرزق. حيث تزوج فيها بهاجر المصرية، وذهبا معًا إلى أرض الحجاز. ومنها أنجب ابنه إسماعيل، وهو أبو العرب. ثم أنجب من زوجته سارة ابنه إسحاق جد اليهود والد يعقوب «إسرائيل»، طبقًا لرواية التلمود في فصل تاريخ الأجداد (12-50).
وعلى الرغم من عدم اعترف التاريخ الغربي في أوروبا بوجود النبي إبراهيم عليه السلام. ذلك لعدم وجود دلائل تاريخية مادية مكتوبة تشير إليه إلا التلمود -من وجهة نظر أغلب الباحثين الغربيين- فإن جامعة هارفارد الأمريكية -في وثيقة أعدت خصيصًا لهذا الشأن- طرحت تساؤلاً هامًا حول ملكية أرض مسار إبراهيم. وذهبت الوثيقة في زعمها أن ملكية أرض مسار إبراهيم لا تخص الشعوب التي تقيم على هذه الأرض. بل تخص أصحاب فكرة مسار إبراهيم. وهم أمريكا وإسرائيل. في محاولة لدعم خريطة أرض إسرائيل الكبرى من النيل للفرات ومن الخليج للمحيط.
تهدف الوثيقة إلى الجمع بين رجال الدين والدبلوماسيين والساسة للتفاوض والوصول إلى المشترك الديني. ومن ثم وضعه على الخريطة السياسية، لإعطاء الحق للشعوب الأصلية التي سكنت هذا المسار «بني إسرائيل»، على حد زعمها.
وقد وضعت الأمم المتحدة عام 1990 اتفاقية تعطي الشعوب الأصلية التي سكنت مسار إبراهيم حق العودة لبلادهم التي خرجوا منها، والحصول على تعويضات مالية بأسعار اليوم عن ممتلكاتهم التي تركوها. ومن هذه الدعاوى ما رُفع ضد مصر والسعودية من قبل إسرائيل، للحصول على تعويضات مالية، بسبب الادعاء بتهجير اليهود منذ خيبر حتى اليوم.
مشروع الإبراهيمية.. محاولة هدم أسباب الصراع
يسعى مشروع الإبراهيمية إلى إلغاء الأسباب الجوهرية للصراع، المتمثلة في التاريخ والأرض واللاجئين وحقوقهم. في مقابل الحديث فقط عن الأسباب البنيوية التي تدور حول الهوية. ومنها: من نحن؟ لماذا نختلف ونحن أبناء عمومة؟
من هنا، تكون الإبراهيمية مدخلاً لقبول التصالح والتطبيع والتحالف الذي فشلت فيه إسرائيل منذ قيامها في العام 1948.
يعود عبد القادر ياسين ليؤكد أن اتفاق «أبراهام» أو الإبراهيمية والزج باسم أبو الأنبياء في عملية تمرير المخططات الإسرائيلية يكذبها التاريخ. لأن دائرة الآثار الحكومية الإسرائيلية نفسها أكدت أن اليهود لم يمروا بأرض إسرائيل ولم يستدل على أي أثر لهم بأرض كنعان القديمة.
يؤكد ياسين أن كل ما تستطيع فعله إسرائيل هو تزييف الواقع من خلال لجان تعمل منذ أواسط القرن 19 لتهويد أسماء المدن وتحويلها للغة العبرية طمسًا للحقائق.
الدكتورة هبة جمال الدين، مدرس العلوم السياسية بمعهد التخطيط القومي، تذهب في دارسة لها عن مشروع «الإبراهيمية» إلى ضرورة الربط بين الفكرة والتساؤلات حولها. وأبرزها: من هم أصحاب الحق الأصلي في الأرض؟ وما الجهود المبذولة من جانب إسرائيل للمطالبة بتعويضات من دول عربية عاش بها اليهود قبل هجرتهم منها؟
وهي تشير إلى كتابات تنادي بالحقوق التاريخية لليهود من قبل عدد من ضباط الموساد الإسرائيلي. فضلاً عن تأسيس بعض الجمعيات بالدول العربية، والتي ترفع شعار إحياء التراث اليهودي. ذلك بهدف تأصيل الادعاء بوجود حقوق تاريخية أصيلة في الأرض العربية.
دبلوماسية المسار الثاني
تقول الدكتورة هبة إن مبادرة تحقيق السلام العالمي عبر التقارب بين الأديان السماوية للوصول للمشترك الديني تُعرف بدبلوماسية «المسار الثاني». أو المفاوضات غير الرسمية، التي تجمع رجال الأديان الثلاثة معًا إلى جانب الساسة والدبلوماسيين. في محاولة لتشكيل مستقبل يكون رهن قرارات تلك الآلية التي يخطط لها أن تكون أساس مركز الحكم العالمي الذي ستدعمه المجتمعات المحلية عبر «أسر السلام» والحوار الخدمي.
وتلفت الدكتورة هبة -في دراستها- إلى أن البحث العلمي مستمر حول المشترك الديني وإعادة قراءة النصوص الدينية المقدسة. وأن الهدف الوحيد هو الترويج للميثاق الإبراهيمي المقدس، ونشر الفكر وتحديثه، وبناء الكوادر العلمية المتخصصة لحل الصراعات.
ومن بين هذه الكيانات العلمية الداعمة للفكرة جامعة هارفارد. وقد قدمت مشروعًا يرصد رحلة النبي إبراهيم بين عشر دول. بما يرسخ لفكرة أن السلام العالمي مدخله الأساسي هو الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط. على اعتبار استقرار هذه المنطقة أساس استقرار العالم. وهو ما يتفق مع رؤية أنصار فكرة «الإبراهيمية».
أهداف استراتجية
ذكرت هبة أن الأمم المتحدة ربطت فكرة الإبراهيمية بأهداف التنمية المستدامة. باعتبارها تهدف لمكافحة الفقر العالمي عبر الحوار الخدمي. وكذا شمول أتباع الأديان السماوية الثلاثة، أي نصف العالم. خاصة أن الأمم المتحدة تحظى بدعم النصف الآخر العلماني من العالم. وبتطبيق هذا الفكر سيتم استيعاب النصف المتدين. ومن ثم ستتحقق الأهداف التنموية المرجوة.
أيضًا تُعتمد سياسة المؤتمرات والقمم الدولية التي تهدف بدورها إلى الوصول للمشترك الإبراهيمي. ومن ثم مد جسور التقارب بين القيادات الروحية والساسة وتوفير سُبل الدعم الممكن.
وعن دور القوى العظمى والمعسكر الغربي في ترويج المشروع، تقول الدكتورة هبة إن في مقدمتها تأتي الولايات المتحدة. وقد بدأت تأسيس هذا الفكر داخل مؤسساتها الرسمية في عام 2013. فتم إنشاء فريق عمل حول الدين والسياسة في وزارة الخارجية بقرار من «هيلاري كلينتون» وزيرة الخارجية الأسبق. ويضم هذا الفريق 100 عضو نصفهم رجال دين من الديانات الثلاث. وهم يعملون جنبًا إلى جنب مع الدبلوماسيين بالوزارة.
كذلك، تستخدم الصراعات الدينية القائمة على الأرض بين أنصار الدين الواحد. وأهمها الصراع السني-الشيعي. وهو الممهد لقبول هذا الفكر باعتبار أن سلوك أتباع الدين الواحد هو دليل على غياب التسامح داخل هذا الدين، ما ينفر أتباعه عنه، ويجعلهم أكثر قبولاً للمشترك الإبراهيمي.
مخاطر الإبراهيمية
تذكر الدكتورة هبة أن المشروع الفكري للإبراهيمية ينطوي على عدد من التداعيات والمخاطر الشديدة. أولها تحول دور العبادة بالأديان الثلاثة إلى مراكز للدبلوماسية الروحية. ومن ثم ستفقد قدسيتها. ذلك فضلاً عن ما سيتبع ذلك من إعادة قراءة النص الديني، واستخدامه في تفسير النهج السياسي. ومثال على ذلك ما تقوم به جمعية المؤرخين للسياسة الخارجية الأمريكية، والتي تعيد قراءة الأحداث التاريخية الأمريكية من منظور ديني. هذا المنظور يبرر كافة القرارات السياسية حتى وإن تم انتقادها لعدم تمتعها بالشرعية الدولية، بأنها تعبر عن أمر إلهي مقدس. ولا يقتصر الأمر على هذا. لكنه يتجه إلى أن تكون هذه القرارات صكوكًا لفعل أي شيء بالمستقبل.
أضف إلى ذلك تداعيات انتشار وتكريس فكرة «الإبراهيمية» على القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين. وقد كانت القدس من أهم المحطات الأولى للتغيير على الأرض. فحاولت منظمة الأونروا فور وصول «ترامب» إلى السلطة حذف عبارة «القدس عاصمة فلسطين» من المقررات الدراسية للصف الأول إلى الرابع الابتدائي بمدارسها. لتحل محلها عبارة «القدس المدينة الإبراهيمية». في محاولة لتغيير وتغييب هوية الأطفال خلال مرحلة التشكيل، ليكونوا نواة التطبيق للمخطط المستقبلي.
أيضًا من أبرز تجليات «الحوار الخدمي» تطهير غور الأردن من الألغام، باعتباره أحد مقاصد السياحة الدينية الإبراهيمية المشتركة. كذلك، فإن الحديث عن «مفهوم أصحاب الحق الأصلي» دون تحديد هويتهم، يفتح المجال أمام إصدار خرائط عن وزارة الخارجية الإسرائيلية تتحدث عن حقوق تاريخية لليهود في الدول العربية. خاصة في شبه الجزيرة العربية.
مواجهة الإبراهيمية تحتاج ثورة خلاص
يقول الدكتور حسن عصفور، وزير التعليم السابق بالسلطة الفلسطينية، إن مواجهة مشروع العدو الإسرائيلي المسمى الاتفاق الإبراهيمي، يحتاج لثورة خلاص من البلادة السياسية السائدة بالمنطقة، ودون ذلك فقل سلامًا على العرب.
ويدعو عصفور إلى البحث عن آليات جديدة للانتقال من ما وصفه «الخمول الكفاحي» إلى «التفاعل الكفاحي»، والانتقال العملي لفك الارتباط بالمؤسسة الاحتلالية المتصاعد من جانب العديد من الدول العربية الموقعة على التطبيع.
وهو يوضح أن الواقع يكشف عن عمق الجهالة السياسية فيما يذهبون إليه وفقًا لحركة مسار الأحداث، ما قبل إطلاق الخطة في بدايات عام 2018، والإعلان عنها في 2020 قبل الانتخابات الأمريكية على لسان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. لأنه للمرة الأولى، نجد أن «خطة سياسية» يتم تنفيذ عناصرها قبل معرفتها أو الاطلاع الرسمي على نصوصها. خطة تبدأ بالمباشرة العملية قبل ترسيخ إطاراتها السياسية التي تتم صياغتها وفقًا لنتائج التنفيذ ورد الفعل.
وقد سبقت مجموعة من الخطوات الإعلان عن المشروع رسميًا. ومنها: إعلان القدس الشرقية والغربية عاصمة لدولة الكيان الصهيوني، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وإلغاء القنصلية الأمريكية في القدس المحتلة وإلحاقها بالسفارة، لتصبح جزءًا منها، في رسالة سياسية واضحة أن القادم سيكون ضمن «السيادة الإسرائيلية» أو تحت «السيطرة» الكاملة.
إعلان أمريكا رسميًا، وعبر سفيرها في إسرائيل أن الضفة الغربية هي «يهودا والسامرة» هو تأكيد صريح لتأييد المشروع التهويدي وتكريس «دولة اليهود»، والتعامل مع ساحة البراق باعتبارها «الهيكل» وبقايا الحائط، ومن ثم وأد قضيتي اللاجئين والجولان. الأمر الذي أعقبه فتح الباب الرسمي للعلاقات العربية الإسرائيلية، وترتيب زيارات إلى تل أبيب والقدس بغطاءات مختلفة.