اندلعت منذ 25 مايو الماضي احتجاجات غير مسبوقة في الولايات المتحدة، بعد وفاة مواطن من أصل أفريقي يُدعى جورج فلويد خنقا، تحت ركبة ضابط بوليس أبيض، الاحتجاجات التي حملت شعار “لا أستطيع أن أتنفس”، هي أكبر من مجرد غضب بسبب عنصرية الشرطة التي أدت إلى موت فلويد، فقد انتشرت كالنار في الهشيم، واجتاحت أكثر من 140 مدينة أمريكية، فضلًا عن عواصم أوروبية عدة، للمطالبة بالتوقف عن “قتل ذوي الأصول الإفريقية”، وإنهاء قرون من الاضطهاد والتفرقة والإرهاب بحقهم في الولايات المتحدة.
ويرى المتابعون أن ما حدث على مدار الأيام الماضية ليس بجديد، حيث تمتلك أمريكا منذ تأسيسها سجلًا حافلًا بالتفرقة العنصرية، والإبادة، والتهجير، وتعمد نقل الأوبئة الفتاكة إلى السكان الأصليين من الهنود الحمر، ومحو أي أثر لهم من الوجود، وهي الممارسات التي تعتبرها القوانين الأمريكية والأوروبية المعمول بها حاليًا “جرائم ضد الإنسانية” لا تسقط بالتقادم.
وفي ثلاثية “أمريكا والإبادات الجماعية”، و”أمريكا والإبادات الجنسية”، و”أمريكا والإبادات الثقافية”، يسجل الباحث والكاتب منير العكش تفاصيل التطهير العرقي الذي قام به الأوروبيون الغزاة ضد الهنود الحمر، وينقل الباحث عن توماس مكولاي، مهندس سياسة التعليم للشعوب المستعمرة، قوله: “لا أظن أننا سنقهر هذا البلد ما لم نكسر عظام عموده الفقري التي هي لغته، وثقافته، وتراثه الروحي”.
مؤسسات لـ “الإرهاب الجنسي”
يقول العكش، إن “مكتب الشؤون الهندية” تولى بدروه عمليات “التطهير الثقافي” بواسطة التعليم، وكان المكتب تابعًا لوزارة الحرب منذ عام 1806، ثم ألحق بوزارة الداخلية عام 1869، وتولى رئاسته الأولى هندي كان يبالغ في تقليد الرجل الأبيض، والهروب من تراثه في المظهر واللباس وحتى المعتقد الديني، فقد تحول الرجل إلى المسيحية لكي يُجهز على البقية الصغيرة المتبقية من تراث قومه!
العكش: “مكتب الشؤون الهندية” تولى بدروه عمليات “التطهير الثقافي” بواسطة التعليم، وكان المكتب تابعًا لوزارة الحرب منذ عام 1806
ولجأ هذا المكتب إلى كل وسيلة متاحة بما في ذلك خطف الأطفال الهنود، وهم في سن الرابعة، وشحنهم إلى معسكرات أشغال شاقة سميت “مدارس”، وفيها تعلموا كيف ينظرون لأنفسهم وللعالم بعيون الغزاة، أو كما يقول الأديب السوداني الطيب صالح عن الاحتلال البريطاني في بلاده “إنهم يعلموننا لكي نقول نعم، بلغتهم”.
اقرأ أيضًا:
وتحت عنوان “الأرض مقابل الحضارة”، ينقل المؤلف عن الجنرال ريتشارد هنري برات، وهو مدير سجن عسكري سابق اختارته الإدارة الأمريكية لإنشاء مدارس للسكان الأصليين، أن “الهدف من هذه المدارس هو قتل هندية الهنود”، والغاية هي ألا يفكر هندي واحد فيما يسمى بالقضية الهندية، وأنه لابد من القضاء على الدين واللغة لأنهما “خط الدفاع الأخير” بالنسبة لهم.
وكان فرض “أعمال السخرة” على الطلاب الهنود جزءًا من نظام هذه المدارس، حيث أثبتت جدواها الاقتصادية، وأصبحت ساعات العمل تزداد سنويًا على حساب ساعات الدراسة، وكانت الحجة الجاهزة لتفسير هذه السخرة هي أن عقول هؤلاء الهمج لا تطيق فهم الكثير من علم “البيض”، وليس من قبيل المصادفة أن تحمل جميع هذه المدارس أسماء حصون عسكرية أو “قديسين”، ومن الإفراط في تسخير التلاميذ أصبح دخل المدارس يفوق نفقاتها السنوية بأربعة أضعاف!.
وأقنع “برات”، الكونجرس برصد ميزانية لتأسيس مدارس أخرى تبشيرية كان الهدف المعلن منها هو “تمدين الهنود”، ووافق الكونجرس بالفعل على هذا المشروع شريطة أن يصبح الكتاب المقدس في أيدي الأطفال، واللغة الإنجليزية لغتهم؛ لأنها لغة الإيمان!
لم تخل مدرسة هندية واحدة من الاغتصاب الجنسي؛ حتى وصفت المدارس بأنها مؤسسات للإرهاب الجنسي، فقد كان من أدبيات المحتل الأبيض أنه لا يوجد شيء اسمه “فتاة عفيفة” ملونة!
وأكرهت هذه المدارس تلاميذها منذ عام 1892 على الاحتفال بـ “عيد كريستوفر كولومبوس”، مكتشف أمريكا، وهنا يتساءل “العكش”: “أي مرارة يجدها الطفل وهو يحتفل بذكرى احتلال أرضه وإبادة أجداده؟ ولذا فالهروب من المدرسة هو أعذب أماني الأطفال، ومن لم يفلح حاول الانتحار فرديًا أو جماعيًا، وبسبب انتشار موات الطلاب فقد سُخّر التلاميذ لحفر القبور في المقبرة الملحقة بكل مدرسة، وكان نجار المدرسة لا يتوقف عن صنع توابيت الأطفال”.
وفي فصل آخر بعنون “استباحة الجسد” من كتاب “أمريكا والإبادات الثقافية: لعنة كنعان الإنجليزية”، يورد المؤلف وقائع تقشعر لها الأبدان، إذ يقول “لم تخل مدرسة هندية واحدة من الاغتصاب الجنسي؛ حتى وصفت المدارس بأنها مؤسسات للإرهاب الجنسي”، فقد كان من أدبيات المحتل الأبيض أنه لا يوجد شيء اسمه “فتاة عفيفة” ملونة!
والمثير للدهشة أن جون سميث، مؤسس أول مستعمرة في العالم الجديد، اعتبر أن الحرب على الهنود استمرار لـ “الحرب المقدسة” على المسلمين، فقد كان يحث جنوده على القتل بلا رأفة، وشيطنة الخصم حاضرة حتى يومنا في السينما الأمريكية، وفي السياسة العليا على لسان أربعة وعشرين رئيسًا أمريكيًا ألقوا أزيد من مئة خطبة قبل شن حروبهم، وأجمعت خطبهم على وصف الضحية بأنه “خطر على الجنس الأبيض”.
“الإبادة أو التمدين”
يعتبر المؤلف أن العقيدة الحربية الأمريكية تقوم على أن “الآخر” جنس وحشي، وعرق منحط لا مناص من إبادته أو تمدينه، وأن وجوده في الحياة لا يخرج عن منفعتين اقتصاديتين للعالم القوي: إما مستهلكًا لمنتجاته، أو يدًا عاملة مسخرة لنفع الأبيض، ويعتبر البيض أن الأراضي المسكونة من غيرهم مساحات بور، وأن اجتياحها تحرير وليس احتلال!.
ويسجل الكاتب بدقة عملية الإبادة الجماعية للهنود الحمر، التي قام بها الإنجليز على مدار أربعمائة عام، ضمن عملية شاملة قاموا بها في المنطقة التي تسمى اليوم بالولايات المتحدة، وأبادوا خلالها أكثر من 18 مليون هندي أحمر، ومحوا من ذاكرة التاريخ مئات الأمم والشعوب.
وكان إبراهام لينكولن، محرر العبيد، هو أكثر رؤساء البلاد دموية تجاه الهنود، حيث أمر بإعدام 37 من رؤساء القبائل الهنديّة، وجورج واشنطن، وغيرهما من قادة أمريكا، ناهيك عن أدباء كبار ومشاهير مثل مارك توين الذي كان يلّح على إبادة الهنود الحمر، أو تعليمهم لتبديلهم بحيث لا يعودون هنودًا!
مارك توين: وقفت بجانب وزير الحرب، وقلت له إن عليه أن يجمع كل الهنود في مكان مناسب ويذبحهم مرة وإلى الأبد
يقول مارك توين: “وقفت بجانب وزير الحرب، وقلت له إن عليه أن يجمع كل الهنود في مكان مناسب ويذبحهم مرة وإلى الأبد، وقلت له إذا لم توافق على هذه الخطة فإن البديل الناجع هو الصابون والتعليم، فالصابون والتعليم أنجع من المذبحة المباشرة، وأدوم وأعظم فتكًا، إن الهنود قد يتعافون بعد مجزرة أو شبه مجزرة، لكنك حين تعلم الهندي وتغسله فإنك ستقضي عليه حتمًا، عاجلًا أم آجلًا، التعليم والصابون سينسفان كيانه ويدمران قواعد وجوده، وقلت له: سيدي، اقصف كل هندي من هنود السهوب بالصابون، والتعليم، ودعه يموت”!.
اقرأ أيضًا:
ووفق الكاتب، فإن ثمة شعوبًا هندية كثيرة لم تفقد أسماءها الحقيقية وحسب، بل صارت لا تعرف نفسها إلا بالاسم الذي أطلقه عليها غزاتها، إذ مسخت فكرة أمريكا منذ البداية ضحيتها الهندي وثقافته، بدعوى أن الأوربيين “أكثر تحضرًا” من الهنود.
وإلى ذلك، يتطرق “العكش” في ثلاثيته إلى دور “المبشرين” الذين فرضوا على السكان الأصليين تغييرات جوهرية في البنى الثقافية والاجتماعية، يمتد من السلوك الفردي إلى البنية الأوسع للتكافل الاجتماعي، حيث كانوا يحقنون التلاميذ بكراهية ثقافتهم ويوهمونهم بانحطاطها وتفاهتها مقارنة بثقافة “الإنسان الأبيض”.
ولكن نجاة ربع مليون هندي من الإبادة الجسدية كان يقض مضاجع الإنجليز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ لازالت تحت أقدامهم حتى ذلك الوقت أرض تكتنز الثروات التي تسيل اللعاب، فكان المستوطنون يريدون القضاء نهائيًا على الوجود الجسدي للهنود أينما وجدوا.