تقف ليبيا حاليا عند مفترق طرق بسبب طبيعة الظرف السياسي الراهن، الذي يقترب من أحداث عام 2016. ذلك بعد أن أعطى مجلس النواب ثقته لـ”فتحي باشاغا” رئيسًا للحكومة الانتقالية، ولمدة 14 شهرًا، طُلب منه أن يهيئ البلاد خلالها لإجراء انتخابات فشلت حكومة الدبيبة في عقدها. وهو قرار أدخل البلاد مجددًا في حالة من الاضطراب السياسي، مشوبة بانقسام الفاعلين السياسيين داخليًا وخارجيًا. بينما لا تزال المنظمات الإقليمية والدولية تكثف تحركاتها لمنع انزلاق البلاد في دائرة الصراع المسلح الدامية.
ففي آخر تصريح لها أمس، قالت المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، ستيفاني وليامز: “إن رئيس الحكومة السابق عبد الحميد الدبيبة، قد يجري محادثات مباشرة مع رئيس الحكومة الجديد فتحي باشاغا، لحل الأزمة السياسية في البلاد”.
وأوضحت وليامز، في تصريحات صحفية، أن الدبيبة وباشاغا أبديا ردود فعل إيجابية، وأن الشيء الجيد هو أن الجميع مستعد للمشاركة في حوار بنّاء. وهو حوار لطالما تمنته ليبيا وفشل سياسيوها في الالتزام به.
الأزمة السياسية في ليبيا
يكشف تسلسل الأحداث منذ سقوط القذافي في عام 2011 عن دولة شديدة الخصوصية من حيث الطبيعة القبائلية والمناخ السياسي السائد. فعلى مدار 11 سنة لم تستطع الحكومات المتعاقبة إنهاء حالة الفراغ السياسي والدفع بالبلاد نحو الاستقرار.
ويمكن رسم ملامح الأزمة السياسية في عدد من النقاط الرئيسية:
الصراع على السلطة:
تعتبر مسألة قيادة الدولة من أكثر مسببات التوتر والعنف في ليبيا. ففي عام 2017 كانت هناك 3 حكومات: حكومة الوفاق الوطني المنبثقة من اتفاق الصخيرات بقيادة فائز السراج ومقرها في العاصمة طرابلس. وحكومة الإنقاذ التي شكّلها المؤتمر الوطني في 2014. وحكومة طبرق.
وتسبب تقاسم السلطة بين أكثر من قيادة إلى دخول البلاد في سنوات من الاقتتال الداخلي بهدف إحكام القبضة على مقاليد الحكم. في ظل تغييب مبادئ الحكم والديمقراطية وسيادة القانون. ويشكل موقف الدبيبة الراهن تحديا عارما لقرار مجلس النواب والتفافا على فشله في القيام بمهامه من حيث حل المليشيات وإجراء الانتخابات.
صعوبة الوصول إلى الانتخابات:
تدور البلاد في حلقة مفرغة يصل مداها إلى أكثر من 10 سنوات في سبيل عقد الانتخابات. وتشكل الانتخابات حجر أساس أي حكم ديمقراطي. ونظرا لطبيعة المناخ السياسي ومصالح الفصائل السياسية الفاعلة في ليبيا. الذي بدوره يتطلب جهودا مضنية لأجل الوصول إلى توافق سياسي يهيئ البلاد إلى إجراء العملية الانتخابية. وقضت حكومة الدبيبة 8 أشهر ولم تستطع القيام بمهامها من حيث حل المليشيات وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية. وتهيئة البلاد لأجل عقد الانتخابات. وتقرر تأجيل إجرائها أكثر من مرة حتى لم تستطع في يوم 24 ديسمبر. ما أوقعها في مأزق شديد في ظل عدم قدرتها على أداء مهامها.
التدخل الأجنبي:
تسبب تدهور الأوضاع في ليبيا إلى وقوعها كساحة للمفاوضات وورقة ضغط بين اللاعبين الدوليين. إذ إن المقررات السياسية التي يجرى العمل بها في ليبيا هي من مخرجات المؤتمرات الدولية والمبادرات الأممية. وهو ما قاد إلى فقدان أي كيان سياسي القدرة على إدارة البلاد دون الحصول على الشرعية الدولية. ويبرز ذلك موقف الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جويتيريش” إزاء انتخاب باشاغا. حيث وصف التصويت بأنه “لم يرق إلى مستوى المعايير المتوقعة للشفافية والإجراءات وشمل أعمال ترهيب قبل الجلسة”.
عجز الجهود الأممية:
فور خروج قرار مجلس النواب بإعطاء الثقة لباشاغا وضعت مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة لدى ليبيا “ستيفاني وليامز” مبادرة أممية تقوم على تشكيل لجنة مشتركة من أعضاء مجلسي الدولة والنواب. تتكون من 12 عضوا بهدف وضع قاعدة دستورية توافقية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال 14 يوما. وهو ما يعتبر مسارا موازيا ورفضا لقرار مجلسي النواب والدولة وفتح المجال لمزيد من الانقسام السياسي. وهو ما عبر عنه 93 عضوا من البرلمان بالرفض القاطع. ما قد يشير استباقيا بعدم تمكنها من تحقيق المهمة المكلفة بها.
مقومات حكومة باشاغا
يحاول باشاغا منذ الأيام الأولى صياغة خطاب شعبوي يصل من خلاله إلى كسب الجماهير. حيث حاول طمأنة المواطنين وإشراكهم في التحديات التي يتعرض لها. وتأكيد حق المواطنين في الشرق والغرب والجنوب في أموال النفط. مطالبا الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بمساندته. ومن الواضح أن فتحي باشاغا يمتلك عددا من المقومات السياسية التي تروج له كرئيس للحكومة الانتقالية والتي يمكن وصفها مقومات غير مسبوقة.
الشرعية القانونية:
انتقلت السلطة من عبد الحميد الدبيبة إلى فتحي باشاغا بأغلبية 92 صوتا من إجمالي 102 من أعضاء مجلس النواب. حيث قرر المجلس أن الدبيبة انتهت ولايته بيوم 24 ديسمبر الذي كان من المقرر فيه عقد الانتخابات. وهو ما عجزت عن تحقيقه حكومة الدبيبة. لذلك فإن باشاغا حاليا يملك شرعية مجلس النواب. وهو المجلس الوحيد المنتخب من قبل المواطنين إلى جانب المجلس الأعلى للدولة. وهو ما أشار إليه في خطابه أنه سيدخل طرابلس بقوة القانون وليس بقانون القوة باعتبار حكومته حكومة لكل البلاد شرقا وغربا وجنوبا.
ومؤخرا أعلن المستشار الإعلامي لمجلس النواب “فتحي المريمي” أن أزمة الانسداد السياسي على وشك الانتهاء. مع توقعات بدخول رئيس الحكومة المنتخب “باشاغا” طرابلس بقوة القانون. فضلا عن جهود الاتصالات الجارية بهدف كسب التأييد من جميع الأطراف.
برنامج انتخابي قوي:
في سبيل استعراض إمكاناته أكد باشاغا الالتزام بعقد الانتخابات في غضون 14 شهرا. كما أشار إلى نيته حل المليشيات المسلحة ودمجها في مختلف مؤسسات الدولة في إطار إقرار مبادئ الأمن والاستقرار ورفض مبدأ القوة والتلويح بالعنف. وعلى الفور سارع في تشكيل الحكومة التي أدت اليمين الدستورية في 3 مارس في طبرق.
ولاء مليشيات مصراتة:
ينحدر باشاغا من مدينة مصراتة في غرب ليبيا. وفي الوقت ذاته نظرا لخبرته السياسية كوزير للداخلية خلال السنوات السابقة. استطاع أن يعقد علاقات قوية مع مليشيات مصراتة. حيث يتمتع بولاء مليشيا “حطين”. وهي من أكبر وأقوى المليشيات المسلحة في مصراتة. وكذلك مليشيا “المرسي” و”لواء الصمود” وغيرهما من المليشيات المجهزة باعتبار أن مصراتة هي أهم ساحة للكتائب المسلحة بقوة يقدّر تعدادها بأكثر من 17 ألف مقاتل. وهو ما يصعب خيار المواجهة مع مؤيدي الدبيبة لما يمكن أن تؤول إليه الأمور من حرب أهلية جديدة.
التوافق بين البرلمان ومجلس الدولة
أكد خالد المشري -رئيس مجلس الدولة الأعلى- على أن اختيار باشاغا جاء بموافقة أعضاء مجلس الدولة تبعا للشرعية المرتبطة بالنص الذي على أساسه جرى منح الدبيبة الثقة في مارس عام 2021. وعليه: “نص في المادة الثانية على أن تكون مدة حكومة الوحدة الوطني أقصاها 24 كانون الأول/ديسمبر 2021”. كما أكد تعرض مجلسي النواب والدولة لحملة هجوم. مؤكدا بذلك الموقف المشترك من جانب الكيانين المنتخبين من قبل المواطنين تجاه باشاغا باعتباره صاحب الثقة بتولي الحكومة نتيجة موافقة المجلسين.
سيناريو الحكومة الموازية
رغم تخلي مجلسي النواب والدولة عن الدبيبة فإنه لا يزال يتمسك بالسلطة. ما يهدد بالعودة إلى المربع صفر ما قبل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة الوحدة. حيث يعتبر الدبيبة التصويت بأنه بمثابة “محاولة انقلاب”. كما صمم على البقاء في السلطة حتى يتم انتخاب مجلس تشريعي جديد ويمكنه اختيار هيئة تنفيذية جديدة. معتمدا على دعم المليشيات ومؤكدا البقاء في السلطة حتى إجراء انتخابات بحلول يونيو.
بوادر العنف
وفي السياق ذاته تصاعد العنف من جانب أنصار الدبيبة. حيث دعوا إلى التظاهر كما منع المعسكر المؤيد له جلسة خاصة للمجلس الأعلى للدولة في 12 فبراير. كذلك أغلقت الجماعات المسلحة المتحالفة مع الحكومة المجال الجوي الليبي لمنع الوزراء من السفر إلى طبرق للمشاركة في مراسم أداء باشاغا لليمين. ما أسفر عن عدم مشاركة 3 من الوزراء من أداء اليمين بعد احتجازهم من طرف مسلحين. وأعلنوا أن البرلمان ليس له الحق في تعيين مسؤول تنفيذي.
انشقاق داخل مجلس الدولة
ورغم تأكيد المشري على شرعية منح الثقة لباشاغا فإنه نتيجة جملة من الضغوط خرج 50 عضوا من مجلس الدولة. أطلقوا على كتلتهم “برلمانيون ضد التمديد”. ليعبروا عن رفضهم لقرار تولي باشاغا والتشديد على رفض استمرار المراحل الانتقالية والحاجة إلى إصلاح البرلمان وكيانات سياسية شرعية جديدة.
تكلس المنفي:
في ظل ما تتعرض له البلاد من تمزيق داخلي. ظل المجلس الرئاسي بقيادة “محمد المنفي” على موقفه من حيث الحياد بين الفرقاء السياسيين. في تخل عن دوره الحقيقي من حيث ضرورة توحيد المؤسسات واستكمال جهود المصالحة الوطنية.
سيناريوهان للوضع الراهن
يعقد مجلس الأمن الدولي في 16 مارس الجاري جلسة لبحث أوضاع ليبيا. ومن خلال ملابسات الظرف الراهن يمكن تصور مآلات الأحداث في سيناريوهين:
السيناريو الأول: تعتبر حكومة باشاغا في حاجة إلى الدعم الدولي والأممي لكي تستكمل دورها وتمارس عملها. ومن المتوقع أن تنجح جهود مجلس النواب وباشاغا في جذب الأطراف الدولية إلى صفوفها بحيث يمكن إقرار خارطة الطريق المستهدفة لأجل عقد الانتخابات.
السيناريو الآخر: إذا لم يتم السيطرة على الأوضاع فمتوقع أن تدخل البلاد في حالة من الفوضى السياسية التي شهدتها سابقا قبل تولي حكومة الدبيبة. وأن يستعين كل طرف بالمليشيات المناصرة له. أي اقتتال داخلي يشعله الرغبة في التمسك بمقاليد الحكم وتجاوز المؤسسات التشريعية والإرادة الشعبية.
وقد أعلن السفير الأميركي في ليبيا ريتشارد نورلاند، في بيان نشرته سفارة بلاده فجر اليوم الأحد، أن الأمم المتحدة ستشرع قريبًا في إجراء “مفاوضات عاجلة” بين رئيسي الحكومتين المتنافستين.
وجاء ذلك إثر لقائه بباشاغا، في العاصمة تونس، حيث أكد الديبلوماسي الأميركي استعداد رئيس الوزراء المعين من البرلمان (باشاغا)، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة (الدبيبة) “الانخراط في مفاوضات عاجلة”، للتباحث بشأن كيفية إدارة المراحل النهائية من فترة الحكم المؤقت والاستعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية في أقرب وقت ممكن.
كما أضافت السفارة أن نورلاند أشاد خلال اجتماعه مع باشاغا بـ”الاهتمام الذي أبداه للانخراط في مفاوضات عاجلة تسيرها الأمم المتحدة بهدف التوصل إلى تفاهم سياسي مع الدبيبة”، موضحة أن السفير نقل له أنّ الدبيبة مستعد بدوره للمشاركة في هذه المحادثات”.