أدى انشغال روسيا بالحرب ضد أوكرانيا إلى خلق انفتاح إضافي لإيران لتعزيز نفوذها الجيوسياسي في منطقة آسيا الوسطى. وهي فرصة ظهرت لأول مرة مع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. في الوقت نفسه، بالنسبة لدول الخليج العربي. أخرجت الحرب روسيا من المعادلة الأمنية في الشرق الأوسط. حتى مع تضاؤل مصداقية الولايات المتحدة كضامن لأمن المنطقة في فترة ما بعد أفغانستان.
دفع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان إلى وضع جيوسياسي جديد مع عدد من التداعيات الإقليمية. فقد عادت البلاد سريعًا لسيطرة طالبان. مع استعداد الصين وروسيا وإيران لإقامة علاقات وثيقة مع الحكومة الأفغانية الجديدة.
كذلك، سعى اللاعبون الدوليون الذين لديهم علاقات مع طالبان -مثل قطر وتركيا وباكستان- إلى المشاركة البناءة مع الحكومة الجديدة بينما تشعر دول أخرى -ولا سيما دول آسيا الوسطى والإمارات والسعودية- بالانزعاج من المخاوف الأمنية أو المتعلقة بالإرهاب أو غير ذلك. أما في أوروبا، يتمثل التأثير المباشر للأحداث في أفغانستان في إدارة أزمة لاجئين ضخمة.
هكذا، مثّل انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان نقطة تحول جيوسياسية بطريقة أو بأخرى. أزال الانسحاب الأمريكي عقبة رئيسية أمام التوقعات الإيرانية في آسيا الوسطى. وخلق فرصة لإيران لتعزيز نفوذها، وزيادة التجارة، وتوسيع التعاون الأمني في آسيا الوسطى.
اقرأ أيضا: ما بعد أمريكا.. البحث عن الفرص والمخاطر في الشرق الأوسط (1-2)
عدم الثقة في الضمانات الأمنية الأمريكية
في تحليل نشرته صحيفة The Wall Street Journal. والذي ناقش كيف وصلت العلاقات الأمريكية السعودية إلى نقطة الانهيار. بدا أن طهران انتبهت إلى أن الانسحاب الأمريكي وضع مسمارًا آخر في نعش تحالف عمره 80 عامًا تقريبًا بين الولايات المتحدة وخصم إيران السعودي اللدود. والتي شهدت مؤخرًا نقاط درامية.
فبينما رأت المملكة السعودية في الانسحاب الأمريكي الفاشل من أفغانستان دليلاً آخر على عدم موثوقية أمريكا المتزايدة كضامن للأمن. كانت لا تزال غاضبة بالفعل من رفض الرئيس الأمريكي جو بايدن التعامل مباشرة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. بسبب مقتل الصحفي جمال خاشقجي عام 2018. بعدها، سلّط إحياء المحادثات الأمنية بين إيران والسعودية في أبريل / نيسان 2022. الضوء على القوس الذي يربط الحربين الأوكرانية واليمنية، بالانسحاب الأمريكي.
يلفت جيمس دورسي، الزميل بمعهد الشرق الأوسط. إلى أن المحادثات السعودية-الإيرانية. توقفت بعد وقت قصير من انسحاب الولايات المتحدة. مع ذلك، فقد أعيد إحياؤها، حيث كانت المملكة تتلمس طريقها للخروج من حرب استمرت ثماني سنوات في اليمن. واجهت خلالها المتمردون الحوثيون المدعومون من إيران. يقول: لقد كلفت تلك الحرب السعودية ضررًا كبيرًا بسمعتها وأثارت تساؤلات حول قدرة جيشها على الأداء.
تعد المحادثات الأمنية، التي بدأت في عام 2021. جزءًا من جهد يقوم به العديد من اللاعبون -خصوم أو حلفاء- في الشرق الأوسط. لتقليل التوترات لضمان عدم خروج الصراعات عن السيطرة. وكانت السعودية قد قطعت العلاقات الدبلوماسية مع إيران في عام 2016 بعد أن تعرضت سفارتها في طهران للنهب من قبل المتظاهرين. الغاضبين من إعدام المملكة لرجل دين شيعي.
خيارات الأمن السعودي
بالنسبة للمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى. أخرجت أوكرانيا روسيا من المعادلة كضامن محتمل للأمن. أو كبديل للولايات المتحدة كمورد للأسلحة. وإلى جانب فشل الولايات المتحدة في الرد بقوة على الهجمات على البنية التحتية الحيوية لدول الخليج. من قبل إيران والحوثيين في اليمن. فقد قوضت أفغانستان الثقة في الضمانات الأمنية الأمريكية.
يقول دورسي: هذا يترك المملكة غير قادرة على حماية نفسها. وبدون خيارات جيدة فيما يتعلق بالضامن الأمني. على الرغم من البراعة العسكرية المتزايدة، والمستودع المليء ببعض من أكثر الأسلحة تطوراً في العالم. ربما تنظر المملكة إلى الصين، ولكن من المرجح أن تكتشف أنها تتطلع إلى قوة لا تزال تفتقر إلى القدرة على استبدال الولايات المتحدة. وإذا كانت لديها الإرادة، فمن المرجح أن تستخرج سعرًا أعلى لعرض ضمان إقليمي. هو الأمان.
يُضيف: قليلون قد يجادلون بأن مشاهد عشرات الآلاف في مطار كابول، وهم يحاولون الفرار من أفغانستان. مع انسحاب القوات الأمريكية قد ألهمت الثقة في الحماية الأمريكية. لكن، من المحتمل أن تكون قدرة الولايات المتحدة وأوروبا على تعزيز المقاومة الأوكرانية. قد خففت إلى حد ما من تأثير الصور الدرامية من كابول.
اقرأ أيضا: تنظيف الفوضى.. تغيير الديناميكيات الجيوسياسية بين الخليج وواشنطن (1-2)
إيران وآسيا الوسطى
مع ذلك، فإن عالم ما بعد الانسحاب الأمريكي، الذي يُنظر إليه من طهران. هو عالم مختلف، كانت الولايات المتحدة فيه متواضعة. وهو عالم تعتبر فيه أفغانستان التي تحكمها طالبان مشكلة أكثر إلحاحًا لإيران منها لدول الخليج العربي، حتى لو خلق الانسحاب الأمريكي فرصة محتملة للطموح الإيراني في آسيا الوسطى.
يلفت محللون إلى أن الأحداث الأخيرة تثبت هذه النقطة. فقد هددت الاحتجاجات المناهضة لإيران في هرات وكابول، وطعن مواطن أفغاني لثلاثة رجال دين في إيران في أبريل/نيسان 2022. بإلقاء الضوء على الجهود الإيرانية للاستفادة من تداعيات الغزو الروسي في آسيا الوسطى.
ألقت هذه الاحتجاجات والهجمات بظلالها على الجهود التي تبذلها إيران. لاستغلال الفرصة الجيوسياسية التي ظهرت لأول مرة مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. والتي من المحتمل أن تكون قد تعززت بسبب تورط روسيا في حرب أوكرانيا.
في الوقت نفسه، يعني الصراع في أوكرانيا أن روسيا أقل تركيزًا على آسيا الوسطى. لذلك، تثير الحرب أيضًا تساؤلات حول الضمانات الأمنية الروسية لدول آسيا الوسطى. بما في ذلك كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي CSTO.
يلقي الصراع ضوء مختلفًا على التصريحات السابقة عن كازاخستان، والتي أدلى بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. قال بوتين في مؤتمر صحفي في ديسمبر/تشرين الأول 2021 أن “كازاخستان دولة ناطقة بالروسية بالمعنى الكامل للكلمة”. وهي نفس الحجة التي استخدمها كمبرر لضم أراضي أوكرانية إليه.
ففي منتدى “سيليجير- 2014” العالمي، والذي أقيم شمالي العاصمة موسكو، بحضور ممثلى الاوساط الشبابية من روسيا والبلدان الأجنبية. وكان وقت ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، أكد بوتين أن الرئيس الكازاخستاني -آنذاك- نور سلطان نزارباييف، رئيس الحزب الشيوعي الكازاخستاني في الحقبة السوفيتية. قد “حقق إنجازًا فريدًا”.
قال: “لقد أنشأ دولة على أرض لم تكن فيها دولة أبدًا. لم يكن للكازاخيين دولة خاصة بهم، وقد أنشأها العالم الروسي، الذي هو جزء من الحضارة العالمية. ”
بعيدًا عن روسيا
في يناير /تشرين الثاني، طلبت الحكومة الكازاخية من منظمة معاهدة الأمن الجماعي المساعدة في إنهاء الاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للحكومة. ومنذ ذلك الحين، غادرت القوات الروسية -وغيرها من القوات التابعة للمنظمة- الدولة الواقعة في آسيا الوسطى. لكن تصريحات بوتين صدرت قبل أسابيع من استمرار التدخل.
طوال الأسابيع التالية، كانت دول آسيا الوسطى حريصة على عدم إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. مع ذلك، قيل إنهم رفضوا طلب بوتين بالاعتراف باستقلال دونيتسك ولوهانسك. المنطقتان المنفصلتان اللتان تدعمهما روسيا في أوكرانيا.
وبعيدًا عن الجغرافيا والوجود الأمني الروسي في المنطقة. يحتاج سكان وسط آسيا إلى النظر في العلاقات الاقتصادية الوثيقة مع روسيا. بما في ذلك تدفق التحويلات من العمال المهاجرين من آسيا الوسطى. الذي تعرض لضربة كبيرة بسبب الصراع في أوكرانيا. ترى إيران أن فرصتها في المنطقة تعززت، لأنها تقدم أحد البدائل القليلة لاحتضان كامل في غياب روسيا والولايات المتحدة. وبعيدًا عن الصين.
يلفت دورسي إلى أنه في مثل هذه الظروف. فإن لدى إيران الكثير لتقدمه في المنطقة غير الساحلية من آسيا الوسطى. لا سيما إذا أدى إحياء الاتفاق النووي إلى رفع العقوبات الأمريكية ضدها. في هذه الفترة، يقترب المفاوضون الأمريكيون والإيرانيون من نقطة حاسمة في إعادة إحياء اتفاقية الحد من البرنامج النووي الإيراني. والتي تعرضت للفوضى بعد انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب منها في عام 2018.
اقرأ أيضا: انتصار إيران الأجوف.. الثمن الباهظ للهيمنة الإقليمية
إيران وطالبان.. حسابات السياسة والتجارة
في أكتوبر/كانون الأول 2021. اجتمع جيران أفغانستان -الصين وروسيا وباكستان وطاجيكستان وأوزبكستان- في طهران لمناقشة احتواء التداعيات الأمنية لسيطرة طالبان على كابول. كما زادت إيران من تعاونها العسكري والأمني مع دول آسيا الوسطى في العام الماضي. حيث أنشأت إيران وطاجيكستان لجنة عسكرية مشتركة تركز على مكافحة الإرهاب.
في الواقع، تحتاج إيران إلى ضمان عدم إغلاق أي أبواب “لأنها تتلاعب في الساحات الخلفية التي يهتم بها الجميع. أحد هذه الملاعب هي أفغانستان “، وفق ما قال مسؤول غربي في محادثة مع الباحث بمعهد الشرق الأوسط.
ورغم رفض إيران -مثل بقية دول العالم- الاعتراف رسميًا بحكومة طالبان طالما أنها لا تُظهر حسن النوايا. من المتوقع أن تنتعش تجارتها مع أفغانستان، التي تستضيف طرقًا برية متعددة إلى آسيا الوسطى غير الساحلية. ويمكن أن تعود إلى المستويات المرتفعة السابقة. التي تجاوزت ملياري دولار أمريكي سنويًا. بعد تراجع العام الماضي الناجم عن الاضطرابات وسط انسحاب الولايات المتحدة وسيطرة طالبان.
أيضا، تناقش إيران مع طالبان إحياء مشروع سكك حديدية طموح. من شأنه أن يربط في البداية هرات بخاف في شمال شرق إيران، ولكن سيتم توسيعه في النهاية لربط خمس دول في آسيا الوسطى. المشروع مقترح بقيمة 2 مليار دولار أمريكي، والذي سيمتد 2000 كيلومتر من الصين. عبر قيرغيزستان، وطاجيكستان، وأفغانستان، وإيران.
وبينما قال مسؤول نقل إيراني: “يمكن لخط السكة الحديد هذا أن يربط أفغانستان بالموانئ الجنوبية لإيران”. يكتسب المشروع أهمية إضافية. لأن العقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا، تبدد الآمال الروسية والإيرانية والهندية في إنشاء ممر نقل بين الشمال والجنوب NSTC. والذي سيربط الهند بأفغانستان، وآسيا الوسطى، وروسيا، وأوروبا، عبر الموانئ الإيرانية. قبل الغزو الأوكراني، كان الإيرانيون والهنود يروّجون للممر باعتباره بديلاً قابلاً للتطبيق لقناة السويس. وإضافة إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية.