مصحوبا بنعي غربي وصفه بـ “البطل الذي سمح بإعادة توحيد ألمانيا”. ولعنات من المنتمين إلى الراية الأوراسية (المؤمنون بالتكامل الروسي الآسيوي) الحمراء، من القوميين الذين يعتبرون أن الرجل “تراجيدي بامتياز”، ساهم في انهيار الإمبراطورية السوفيتية. رحل عن عالمنا، الثلاثاء الماضي، ميخائيل جورباتشوف، آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي. الرجل الذي ظل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -حتى وقت قريب- يلومه على قرارته التي أدت لما قال إنه “انفراطا للعقد الشيوعي”.
رغم الوادع الرسمي والشعبي لأكثر رؤساء الاتحاد السوفيتي شهرة في التاريخ. لكن مايكل كيميج، أستاذ التاريخ بالجامعة الكاثوليكية الأمريكية، وضعه كنقيض لما أطلق عليها “الأحمق المُقدّس” تلك الفئة المشتقة من المسيحية الأرثوذكسية، التي تنتمي إليها الثقافة الشعبية الروسية. وهي مكونة من أشخاص “غير متزامنين مع المجتمع التقليدي. يقولون الحقيقة رغم أنها قد تبدو للآخرين هراء، يتعثرون في الحياة، يختبرون النجاحات والفشل. لكن في نفس الوقت يمكنهم التنبؤ بمستقبل العالم”.
يقول كيميج: من الممكن أن نرى ميخائيل جورباتشوف أحمقًا مقدسًا. لقد كان غير منسجم مع المجتمع السوفيتي التقليدي الذي ولد فيه عام 1931، تحديدًا لأنه كان سوفييتيًا بإخلاص.
وأضاف: لأنه لم يتوقف أبدًا عن كونه سوفييتيًا بصدق، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991. تبين أن نجاحه الأكبر -محاولة إصلاح الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات- كان أكبر فشل له. عندما أدى الإصلاح إلى ثورات سلمية عبر الإمبراطورية السوفيتية.
اقرأ أيضا: كيف بدأت الموجة الجديدة من سباق التسلح بين روسيا والغرب
رمز التجديد السوفيتي
في عام 1978، كان جورباتشوف، المحسوب على جيل جديد من الناشطين بالحزب الشيوعي. الذين ضاقوا ذرعا من الكهول، الذين كانوا يحتلون قمة هرم السلطة في الاتحاد السوفييتي. يتوجه إلى موسكو، بوصفه عضوا في السكرتارية الزراعية التابعة للجنة المركزية. ولم تكد تمر سنتان، إلا وعين عضوا كاملا في المكتب السياسي، المنبثق عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي.
وخلال الفترة التي تولى خلالها يوري أندروبوف منصب الأمين العام للحزب، كان من المتوقع ان يخلفه جورباتشوف. لكن، عند وفاة الاخير في عام 1984، اختار الحزب قسطنطين تشيرنينكو أمينا عاما له. لكنه توفي بعد أقل من سنة من توليه المنصب، واختير خلفا له أصغر أعضاء المكتب السياسي عمرا، ليصبح جورباتشوف بذلك أول أمين عام للحزب الشيوعي لم يعاصر الثورة البلشفية عام 1917.
نظر الحزب إلى الأمين الجديد -آنذاك- بوصفه رمزا للتجديد، بعد الركود الذي ساد فترة حكم ليونيد برجنيف ومن بعده أندروبوف. فقد كان لباسه الحديث وأسلوبه الصريح والمنفتح عكس ما كان عليه أسلافه، أما زوجته رايسا، فقد كانت أشبه بزوجة رئيس أمريكي من زوجة الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي.
عندما طرح جورباتشوف برنامجه الإصلاحي في عام 1985، كان هدفه الوحيد هو إحياء الاقتصاد السوفيتي الراكد وإصلاح نظام البلاد السياسي. إلا أن الجهود التي بذلها في هذا المجال أصبحت عاملا مساعدا لسلسلة من الاحداث التي أفضت الى انهاء الحكم الشيوعي. ليس في الاتحاد السوفيتي فحسب، بل في كل الدول التي كانت تجري في فلكه.
يلفت كيميج إلى أنه “لم يخطر ببال العالم ما سيكون حالما تسير إصلاحاته في مسارها. لم يخطر بباله سقوط الاتحاد السوفيتي. أو أوروبا المجزأة في التسعينيات، بعضها في الاتحاد الأوروبي والبعض الآخر في الناتو وبعض ثالث في الخارج. ولم يخطر بباله صعود فلاديمير بوتين -الذي لم يكن أقل من جورباتشوف السوفيتي. ولكن لم يكن لديه استثمار في المثالية السوفيتية- كان لدى بوتين تقدير للقوة السوفيتية والروسية لم يشاركه جورباتشوف مطلقًا.
رجل لائق.. نظام غير لائق
يرى كيميج أن سر جورباتشوف “يكمن في التمييز بين جورباتشوف الرجل وجورباتشوف رجل الدولة. فقد كانا شخصين مختلفين للغاية”.
عندما تولى رئاسة الدولة، كان الأمين العام الجديد -المتشبه في مظهره بحُكّام الغرب- تنتظره مهمة كبرى. تتمثل في احياء الاقتصاد السوفيتي المتهالك الذي كان يقف عند حافة الانهيار. هنا، أدرك الزعيم الجديد أن الحزب نفسه بحاجة إلى إصلاح جذري قبل بدء إصلاحاته. وكان الحل الذي ابتكره جورباتشوف لهذه المعضلة عبارتين باللغة الروسية.
لم ينس الجيل القديم هذين المصطلحين اللذين أديا إلى تغيير حياتهم بشكل جذري. عندما قال جورباتشوف إن البلاد بحاجة الى “بيريسترويكا” أو “إعادة هيكلة”، وأن الأداة التي سيستخدمها لتحقيق هذا الهدف هي الـ “جلاسنوست” أو “الانفتاح/ إعادة الهيكلة”.
وقتها، خاطب مسئولي الحزب في لينينجراد -التي صارت سان بطرسبرج- قائلا: “إنكم متخلفون عن ركب الاقتصاد. وإن البضائع الرديئة التي تنتجونها أصبحت مصدر إحراج.”
لكن في الوقت نفسه، لم يكن جورباتشوف يخطط أبدا لاستبدال سيطرة الدولة على الاقتصاد بنظام للسوق الحرة. كما أوضح في كلمة ألقاها أمام جمع من مندوبي الحزب في عام 1985. قال: “بعض منكم ينظر الى اقتصاد السوق بوصفه طوق النجاة لاقتصاداتكم. ولكن يا رفاق، لا ينبغي أن تفكروا بأطواق النجاة. بل بالسفينة ذاتها، والسفينة هي الاشتراكية.” ربما لذلك حاول التصدي للركود الذي كان يعاني منه النظام السوفيتي عبر “الديمقراطية”. فللمرة الأولى، استحدث جورباتشوف انتخابات حرة في “مؤتمر نواب الشعب”.
يؤكد كيميج أن آخر الرؤساء السوفيت قد يكون أصابه الغرور في أوج حياته.
يقول: إنه دراسة حالة للمثقف في السلطة، مع إغراء المثقف لاتباع الأفكار الكبيرة، وصولاً إلى حد التضحية بالنفس. . لكن غطرسة جورباتشوف لم تمنعه من التضحية من أجل المبدأ.
اقرأ أيضا: لماذا تخلفت روسيا عن سداد دين خارجي لأول مرة منذ 100 سنة؟
في مواجهة الاضطرابات
أراد جورباتشوف وضع نهاية للحرب الباردة. وتمكن من الاتفاق مع الرئيس الامريكي رونالد ريجان على إلغاء نوع كامل من الأسلحة النووية، من خلال معاهدة الاسلحة النووية المتوسطة. كما أعلن عن خفض أحادي الجانب في القوات التقليدية السوفيتية، وأنهى التدخل الدموي والمذل في أفغانستان.
أدت خطوات جورباتشوف نحو تخفيف الصفة القمعية للنظام السوفيتي. إلى تململ في صفوف القوميات المختلفة التي يتكون منها الاتحاد المترامي الأطراف. حيث أطلقت الاضطرابات التي شهدتها كازاخستان في ديسمبر/ كانون الاول 1986 حقبة اتسمت بالاحتجاجات.
لكن، واجه الزعيم بخطواته الجديدة أصعب امتحاناته في الدول التي ضمها الاتحاد السوفيتي دون رغبة سكانها. في هذه الدول، أفضى انفتاح جورباتشوف وديمقراطيته إلى ظهور حركات تدعو للاستقلال، وهي حركات قمعها بالقوة أول الأمر. ثم بدأت عملية تفكك الاتحاد السوفيتي في جمهوريات بحر البلطيق في الشمال -استونيا وليتوانيا ولاتفيا- التي انفصلت عن موسكو. مما أدى الى انتشار الانتفاضات في دول حلف وارسو.
بلغت هذه الانتفاضات ذروتها في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 عندما سمحت السلطات في جمهورية ألمانيا الديمقراطية “الشرقية” -أكثر حلفاء الاتحاد السوفيتي تشددا- لمواطنيها بالعبور سالمين إلى برلين الغربية “المانيا الغربية”، وذلك عقب مظاهرات كبيرة عمت مدن البلاد. لم يرد جورباتشوف على هذا التطور الخطير بالطريقة السوفيتية التقليدية. إذ لم يستخدم القوة، واكتفى بالقول إن إعادة توحيد ألمانيا شأن ألماني داخلي.
لكن الزعيم الجالس في الكرملين لم يكن يدرك وقتها أن خليفته الثاني لنفس المقعد كان وقتها واقفا أمام مبنى الاستخبارات الألمانية “شتازي” ليمنع الجماهير الغاضبة من اقتحام المبنى. وأن ذلك المشهد سيُحفر في ذاكرة الضابط فلاديمير بوتين، الذي وعد نفسه ألا يشهد هذا الإذلال مرة أخرى.
رجل دولة كارثي
أوضح كيميج، في تحليله لتأثير إرث جورباتشوف على الحروب التي خاضتها روسيا في عهد بوتين. أنه” ربما كان جورباتشوف رجلاً لائقًا. لكنه كان رجل دولة سيء بشكل كارثي”.
يقول: على الرغم من ثقته بنفسه، وتألقه الفكري، وتحمله، لم يكن لدى جورباتشوف أي فكرة عما كان يفعله. قام بسلسلة من الإجراءات التي خرجت بسرعة عن السيطرة. بعد منح الأفراد والجماعات مزيدًا من الحرية من أجل إنقاذ الاتحاد السوفيتي، كان عليه أن يشاهد وهم يستخدمون هذه الحرية لتقويض الاتحاد السوفيتي.
وأضاف: لم يفهم دوافع الناس الذين حكمهم. لم يفهم قوميتهم. ولاسخريتهم. ولم يفهم الدور الذي لعبه الإكراه في إبقاء الاتحاد السوفييتي واقفاً على قدميه، وبالتالي كان ساذجًا بشأن ما سيحدث عندما يتضاءل هذا الإكراه من خلال الجلاسنوست والبيريسترويكا. وهي الكلمات الطنانة في فترة ولايته.
بحلول أغسطس/ آب 1991، بلغ السيل الزبى لدى الحرس الشيوعي القديم في موسكو. فقام هؤلاء بانقلاب عسكري، وألقي القبض على جورباتشوف اثناء تمتعه بإجازة عند ساحل البحر الأسود. هذه المحاولة منحت زعيم الحزب في موسكو، بوريس يلتسين، الفرصة التي كان ينتظرها. فقمع الانقلاب، وألقى القبض على المتظاهرين، وجرد جورباتشوف من كل سلطاته تقريبا مقابل الإفراج عنه.
عندما بدأ يلتسين ونظراؤه في أوكرانيا وبيلاروسيا في حل الاتحاد السوفيتي. لم يستدع جورباتشوف الجيش، أو يدعو إلى العنف في الشوارع، أو يبحث عن موالين داخل الـ KGB -المخابرات السوفيتية- لإبقائه في السلطة بالقوة. لذلك، لم تكد تمضي 6 أشهر على تلك الحادثة. حتى أقيل جورباتشوف، وتم حظر الحزب الشيوعي، وبدأت روسيا في السير في اتجاه جديد وغير معروف.
يفسر أستاذ التاريخ بالجامعة الكاثوليكية الأمريكية هدوء الرئيس السوفيتي في مواجهة الإطاحة بقوله: قرر جورباتشوف أن يصبح جورج واشنطن في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي. أظهر أن التداول السلمي للسلطة كان ضروريًا وممكنًا. على عكس القادة السوفييت مثل ستالين وبريجنيف.
وأكد: على عكس بوتين، على الأرجح، خلص جورباتشوف إلى أنه من الأفضل ألا يموت في منصبه.
اقرأ أيضا: كيف أصبحت أوكرانيا ضحية نظرة بوتين المتشائمة لمستقبل روسيا؟
كان من الممكن الا تكون هناك حرب
بعد انطلاق العملية العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية في 24 فبراير/ شباط الماضي. لم يعلق جورباتشوف -الذي كان طريح فراش المرض- مباشرة. إلا أن مؤسسته أصدرت بياناً في الأيام الأولى التي أعقبت العملية، دعت فيه إلى “وقف فوري للأعمال العدائية والبدء بمفاوضات سلام”.
كما شدد على أن”لا شيء أغلى في العالم من أرواح البشر”.
يشير كيميج إلى أنه لا يمكن إلقاء اللوم على جورباتشوف في حروب بوتين في أوكرانيا. لكن جورباتشوف لم يكن ليخوض هذه الحروب”.
مع ذلك، والحديث لا يزال للأستاذ الأمريكي، يتحمل جورباتشوف المسئولية عن مجموعة من الظروف التي “كانت بمثابة الشرط المسبق لحروب بوتين، وللحالة الكارثية لعلاقات روسيا مع الغرب”. فقد “خلقت قدرة جورباتشوف غير الكفؤة فراغًا هائلاً في شرق ووسط أوروبا. لم يكن لديه رؤية مستدامة لهذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية.
وبينما تسبب الفراغ الذي تركه جورباتشوف عندما اضطر إلى التقاعد عام 1991، في مشاكل لكل من روسيا والغرب. فسر بوتين هذا الفراغ على أنه خسارة لروسيا، يتحدث بوتين نيابة عن العديد من الروس في هذا الصدد. ما خسرته روسيا -كما جادل بوتين- يجب أن تستعيده من خلال القوة العسكرية إذا لزم الأمر. في عام 2008 في جورجيا، ثم في عام 2014 في أوكرانيا. بدأ بوتين حروب الاستعادة، بعد أقل من عقدين من انهيار الاتحاد السوفيتي.
ويؤكد: إذا كان الغرب قد توصل إلى بنية أمنية عملية لأوروبا في التسعينيات. وإذا كان قد اكتشف حقًا فراغ جورباتشوف، إذا كان هذا حدث، فكان من الممكن الا تكون هناك حرب في أوكرانيا اليوم.