عند طرح (الزواج المدني) كطوق نجاة لمشكلات تشريعات الأحوال الشخصية للمسلمين والمسيحين، دائما ما يثور تساؤل عن حالة زواج المسلمة من غير المسلم تحديدا، لهذا سأحاول فى هذه السطور القليلة مناقشة هذا التساؤل.
بداية يؤسفني أن أقول إن قضايا النساء والمواطنة من المسائل التى تتعسف فيها المؤسسات الدينية لفرض سيطرتها بما لا يحقق المصلحة فى أغلب الأحوال، والشاهد على ذلك موقف الأزهر كمثال فى قضية الختان تاريخيا، فقد تأخرت المؤسسة الفقهية في الأزهر عن إدراك أهمية البحث الموضوعي الذي يحقق مصلحة المجتمع لتحريم الختان، فجاءت فتاوى شيوخ الأزهر في البدء بالقول بأنه سنة، ثم مكرمة، وأخيرا جاءت الفتوى بتحريم الختان بعد تجريمه فى 2008، بل وتكرر ذلك فى قضية الخلع الذي لم يطرحه رجال الدين كحل لخلاص النساء من علاقات زوجية غير راغبات فيها إلا بعد تعديلات قانون الأحوال الشخصية فى عام 2000، الأمر الذي يشير إلى تعسف تلك المؤسسات الدينية وتأخرها فى إدراك مصلحة المجتمع وهو ما يختلف جملة وتفصيلا مع ما جاءت به الأديان وبخاصة الإسلام الذي جعل المصلحة هى مناط الأحكام وأينما كانت كان شرع الله.
ذلك أنه يجب أن نميّز بين “ما أتى به الإسلام وجاء لأجله وهو جوهره ومعناه فيبقى خالدًا بخلوده كعقيدة التّوحيد ومكارم الأخلاق وإقامة قسطاس العدل والمساواة بين النّاس” وبين “ما وجده من الأحوال العارضة للبشريّة والنّفسيّات الرّاسخة في الجاهليّة قبله دون أن تكون غرضا من أغراضه”.
إنّ الأحكام التي وضعها لتلك الأحوال العارضة بإقرارها أو تعديلها إنّما تزول بزوال الدواعي إليها. ومن هذه المسائل الرقّ وتعدّد الزوجات ممّا لا يراه حتّى جزءا من الإسلام. فثمّة عنده “الإسلام الخالص” وهو روح الشريعة و”الأعراض” وهي الأحكام التفصيليّة.
واقعيّة الإسلام الذي لم يفترض الحوادث ليقرّر الأحكام فيحمل الناس على قبولها بل نزلت الآيات ملتبسة بالوقائع فظلّ التشريع يتطوّر بتطوّر الحياة. ولا تخفى هنا وظيفة النسخ الذي يمسّ الأحكام دليلا على الارتباط بين النصّ وحوادث التاريخ. والحكمة في ذلك، عند الحدّاد، ارتكاز الشريعة على أمرين هما “الأخلاق الفاضلة” و”حاجة الإنسان في العيش”. وهما أصلان يتفاعلان على أساس التدرّج في الأحكام. فالشريعة بمرونتها ضربٌ من التربية تسايرُ نضج الإنسانيّة الناقصة في أصلها وتواكبُ استعدادها لتقبّل الكمال. فخلود الإسلام مرتبط بهذه القدرة على إدراك “أطوار الحياة الإنسانيّة”. وليس ثمّة من دليل في الدين على أنّ ما بلغه التدرج بالأحكام في حياة الرسول هو منتهى المأمول من حكمة التدريج. وأوضح مثال على ذلك عنده هو موقف الإسلام من الرقّ.
فروح الإسلام هي الحرّيّة ولكنّه أبقى على الرقّ. وعلّة ذلك أنّ الإسلام “لم يستطع في حينه أن يقرّر حكما نهائيّا غير إعلانه الرغبة في العتق” بيد أنّه عوّل على “تشوّف الشارع للحرّيّة” وإدراك الفقهاء لما “في الشريعة من العطف والتقدير لحرّيّة الإنسان”.
والمشكلة أن رجال الدين والفقهاء صرفوا النظر عن حكمة التدرّج التي راعها الإسلام وسعى من خلالها إلى الكمال. بل نراهم يساهمون بما استنبطوه من أحكام في إدامة النقص في المرأة وتضخيم الخلاف بينها وبين الرجل في الحياة. وفي هذا “يظهر جليّا أنّ النفسيّة التاريخيّة للعرب وسائر المسلمين في اعتبار المرأة قد تغلّبت على ما يريد الإسلام لها من تقدير وعطف”. بيد أنّ هذا الموقف يعود إلى أمر أساسيّ يتّصل بغياب الرؤية التاريخيّة لدى الفقهاء. فهم يعملون بأقوال السابقين رغم تبدّل العصور وتغيّر أحوال المجتمعات. ولا فكاك بين انعدام الحسّ التاريخيّ والعجز عن فهم روح الشريعة ممّا جمّد الفقه الإسلاميّ وشرّع لغلق باب الاجتهاد.
وعلى هذا لابد أن يكون منهجنا في معالجة العلاقة بين الشريعة والتاريخ قائما على رفض البحث في النصّ المنطبق على هذه الجزئيّة أو تلك، بل هو ينطلق من النصّ في كلّيّته بحثا عن روح الإسلام واتجاهه العامّ ليستخرج الحكم المناسب إقرارا للحكم الجزئيّ أو تعديلا منه.
فالإسلام طريق نحو الكمال الإنسانيّ والتقدّم بهدي من روح الشريعة ولا يمكن التوقّف عند ما بلغه هذا الحكم أو ذاك في فترة من فترات التاريخ مسايرةً لوضع من الأوضاع.[1]
فعليه يجب أن يكون وضع المرأة في الإسلام يتأسس على المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات والثواب والعقاب، ذلك المبدأ الذي افتتحت به وثيقة حقوق المرأة التي أصدرها الأزهر عام 2014.
وبالنظر إلى المتغيرات المجتمعية التي يمر بها العالم وما طرأ على وضع المرأة من متغيرات اقتصادية واجتماعية، جعلتها في كثير من الحالات هي المعيل الوحيد لأسرتها، وهو ما يجعلنا نتساءل: أليس هناك العديد من الآيات القرآنية التي تُعد قطعية الثبوت والدلالة وعلى الرغم من ذلك تم إيقاف العمل بها ومنها الرق والجزية على المسيحيين في آيه صريحة ولم يعد يتم تطبيقها الآن؟، وأيضا مصارف الزكاة، التي منها “المؤلفة قلوبهم” والتي قام عمر بن الخطاب بمنعها، كما أنه يوجد مبدأ فقهي يقول “للحاكم تقييد المباح” وكذلك التعذير وهو ما رأيناه في تعطيل آيات الحدود والرق، أوليست الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان؟ فلماذا تختزل وتقييد عند الحديث عن اجتهادات فيما يخص المواطنة والمساواة وحقوق النساء.
كما أن هناك تساؤل يطرح نفسه الآن وهو: هل أخطأ من اجتهدوا من السابقين ومنهم من كبار الصحابة في نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة أم أنهم اعتمدوا على فهمهم لمقاصد الشريعة وفقه الواقع وتغير الظروف المجتمعية والمعاملات بين أفراد المجتمع؟
إشكالية زواج المسلمة بغير المسلم؟
بداية لابد من توضيح أن الدين هو فى جوهره عبادات ومعاملات، والاجتهاد لا يكون إلا فى “فروع المعاملات” التى تحتمل الاجتهاد، حيث النص الوارد بها يحتمل الآراء والأفهام.
ذلك أن الزواج بين الأديان إسلام ومسيحية ويهودية وكافة أديان العالم والزواج بين المذاهب شيعة وسنة، شيعي وسنية، وسني وشيعية، والزواج بين أبناء الدول المختلفة كلها أمور محبذة ومحببة للمزيد من انصهار وتواصل وترابط الحضارات وأبناء الوطن الواحد وأبناء آدم وحواء أبناء البشرية جمعاء فى حب وسلام.
وهناك آراء كثيرة منها رأى مفتى استراليا الدكتور مصطفى راشد الذي يقدم اجتهاده فى هذه القضية كالآتى: “حيث لا يوجد أي نص قرآنى أو حديث صحيح يمنع هذا الزواج، ومن يحتجون بالآية الوحيدة 221 من سورة البقرة: «وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ»، نقول لهم: أنتم تفسرون القرآن على هواكم الذكوري، لأن الآية تتكلم عن المشركين والكفار وليس أهل الكتاب، وهى نفس النص القرآني الذي يجيز زواج المسلمين من مسيحيات ويهوديات، ولما تسأل المشايخ يقولوا لك دول كتابيين مش مشركين، ليه بقى بتكيلوا بمكيالين ليه؟ وهناك دليل قاطع على جواز ذلك الأمر شرعا، وهو ما ورد فى السيرة النبوية لابن كثير والسيوطي والواقدي والحلبي وغيرهم، عن استمرار زواج زينب بنت الرسول من أبي العاص بن الربيع، وهو غير مسلم، وظلّت معه حتى موته على غير الإسلام.[2]
وفى ذات السياق يأتى اجتهاد الشيخ حسن الترابي أيضا بشأن نفس الموضوع:
ففي ندوة حضرها حشد من السياسيين وعلماء الدين في الخرطوم، أجاز الزعيم الإسلامي السوداني الدكتور حسن الترابي زواج المرأة المسلمة من الرجل الكتابي “مسيحيا كان أو يهوديا”، قبل أن يصف القول بحرمة ذلك، بأنه “مجرد أقاويل وتخرصات وأوهام وتضليل” الهدف منها جر المرأة إلى الوراء.[3]
وأضاف: “ينبغي أن ينظر إلى هذا الاجتهاد في سياق شأن المرأة عامة، خطابا للمجتمع المسلم، فإن خطاب المجتمع المسلم المعاصر في شأن المرأة ينحط كثيرا عن أحكام قيم الدين ويبعد عن أحكام قيمه الدينية، والمثال فيه أن المسلمين ينأون عن الخوض في مثل هذه الأحكام في زواج بناتهم. ولعل من نافلة القول التذكير بأن رأيي هذا ليس بجديد، فهو رأي قديم، وما كان مجرد خبر، ولكن كان ردا على أعراض كانت تبدو للجاليات المسلمة في أميركا، إذ قدمت إلى أحد المراكز الإسلامية هناك امرأة تريد أن تعتنق الإسلام ولكنها تريد أن تعرف حكم بقائها مع زوجها، الذي ظل على دينه، لكنهم، أي مسؤولو المركز، كانوا بانفعالهم وارتهانهم إلى التقاليد، يوصونها إن هي صدقت بأن تذهب لتقاضي زوجها طلاقا، وبالتالي تخسر ولايتها على الأبناء وتخسر كل تكاليف التقاضي، وهي في أول الخطا نحو الإسلام، وكان ذلك غالبا يصدهن عن اعتناق الإسلام وإشهاره. طبعا قرأت كثيرا في تاريخ الإسلام عندما اضطربت الأحوال بين المسلمين والمشركين، وبين مسلمين موصولين بجماعات غير مسلمة وأيام الردة التي طرأ فيها اضطراب كثير، فقدرت الرأي لما لم أجد في كتاب أو سنة كلمة واحدة تمنع زواج المسلمة من كتابي، فكنت أرى أن يتركوها تسلم فتثبت إيمانها، وكثيرا ما تدعو وتنشط في دعوتها إلى الله، فتجر إلى الإسلام زوجها ومن حوله وهكذا.. وهذا فتح مبين في أسرتها وفي الأُسر الأخرى”.
الميراث بين مختلفي الدين
دائما ما تثور إشكالية الميراث بين مختلفي الدين فى حالة الزواج المدني، فإذا كان أحد طرفي العلاقة الإرثية مسلما والآخر غير المسلم فهل يرث أي منهما الآخر؟. وبصفة عامة هل يمكن اعتبار اختلاف الدين مانعا من موانع الإرث في القانون؟.
لقد ورد في المادة (587) من قانون الأحوال الشخصية المصري بخصوص موانع الإرث ما يأتي: “الثالث (من موانع الميراث): اختلاف الدين فلا يرث الكافرُ من المسلم، ولا المسلم من الكافر”. وجاء في المادة السادسة من قانون المواريث المصري رقم ( 77 ) لسنة 1943 ما يأتي: “لا توارث بين مسلم وغير مسلم”.
القياس على الوصية:
فيما يتعلق بالوصية نص صراحة على أنه لا عبرة باختلاف الدين بين الموصي والموصى له فالقانون المصري لا يشترط اتحاد الدين بين الموصي والموصى له، إذ ورد في المادة (3) من قانون الوصية المصري رقم 71 لسنة 1946 ما يأتي: “… إذا كان الموصي غير مسلم صحت الوصية إلا إذا كانت محرمة في شريعتة وفي الشريعة الإسلامية”.
ونصت المادة (9) من هذا القانون على أنه: “تصح الوصية مع اختلاف الدين والملة، وتصح مع اختلاف الدارين، إلا إذا كان الموصي تابعا لبلد إسلامي والموصى له غير مسلم تابع لبلد غير إسلامي تمنع شريعتة من الوصية لمثل الموصي”. وورد فيه أيضا: “اختلاف الدين والملة لا يمنع صحة الوصية، فتجوز الوصية من المسلم للذمي أو المستأمن بدار الإسلام، ومن الذمي والمستأمن للمسلم والذمي ولو في غير ملته، ويجوز للمستأمن الذي لا وارث له بدار الإسلام أن يوصي بجميع ماله، وأن أوصى ببعضه يرد الباقي إلى ورثته، وتنفذ وصية الذمي من ثلث ماله لغير الوارث، ولا تنفذ للوارث إلا بإجازة الورثة الأُخر” وبذلك يكون القانون المصري قد حدد الشخص غير المسلم الذي تجوز له الوصية وهو الذمي أو المستأمن، بخلاف الحربي. ومن ذلك يتضح أن القانون المصري قد أخذ في هذه المسالة برأي الحنفية والإمامية القائل بجواز الوصية للذمي والمستأمن وعدم جوازها للحربي .
وطالما أن كلا من الميراث والوصية هو تمليك مضاف إلى ما بعد الموت فيفترض أنه لا فرق بينهما.
يستند الفقه الرافض للأخذ باختلاف الدين كسبب للمنع من الميراث لكون البنى الاجتماعية تطوّرت في مصر منذ ما يزيد عن القرن وتركيبة هذا المجتمع أصبحت تركيبة من نوع خاص، وأصبح فرض الآراء الفقهية القديمة غير ملائم تماما للبنى الاقتصادية والاجتماعية وذلك خلافا لبقية القوانين، ويذهب البعض الآخر أبعد من ذلك مناديا بالفصل بين الدين والقانون، على اعتبار أن وظيفة الدين الإسلامي أن يدفع المواطنين إلى الرقي الروحي ويركز القيم الأخلاقية في المجتمع، ولكنه في ذات الآن يترك القانون وشأنه الخاص به.
[1] مقال شكرى المبخوت “الطاهر الحداد: روح الشريعة والإسلام الخالص” – العربى الجديد https://goo.gl/6AcKEe
[2] جريدة الوطن http://www.elwatannews.com/news/details/2442876 12 اغسطس 2017
[3] صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية الأحد 9/4/2006