في عام 1963 رن جرس الهاتف في مكتبها، وعلى الطرف الآخر كان وزير العدل المرحوم فتحي الشرقاوي: “أستاذة كريمة تعالي عايزك.. أحمل رساله لك من الرئيس عبد الناصر!!”.
في طريقها إلى مكتب الوزير كانت تتداعي ذكرياتها. عام 1941 تخرجت من كلية الحقوق جامعة القاهرة، مع خمس فتيات فقط. تقدمت للقيد في نقابة المحامين، وقُبلت، ثم قررت عام 1944 أن تتقدم إلى وظيفة “معاون نيابة”، شأنها شأن أقرانها من الذكور. لم يسمحوا لها بأن تقدم أوراقها من الأساس. ذهبت شاكية إلى المرحوم عبد الحميد عبد الحق باشا؛ الرجل كان نقيب للمحامين ثم تولى مسؤولية وزارة الشؤون الاجتماعية، وكان “تقدميًا” بمعايير ذلك الزمان.
التقاها في مكتبه وما إن سمع شكايتها حتى استغرق في الضحك، ثم اعتدل، وقال لها: “عايزة تبقي وكيل نيابة يا كريمة، فعلًا القيامة هتقوم!!”. ثم عرض عليها أن يتم تعيينها في وظيفة “محقق” في مكتب الوزير.
كان هذا عملًا “ثوريًا” لأن شابة صغيرة يمكن أن “تحقق إداريًا مع رجال”. ومع ذلك، رفضت وأصرت على أن يوم النساء في القضاء قادم.
في طريقها للقاء وزير العدل عام 1963 كانت كريمة علي حسين تتصور أن مصر قد تغيرت. كان قد تم إعلان الميثاق الوطني عام 1962، والذي كان بمثابة دليل لبناء “جمهورية عبد الناصر الجديدة”. وكانت المساواة بين الرجال والنساء في قلب عملية التحديث الجارية.
لم يكن الأمر حديث “خرافة”؛ فقد تم بالفعل -وقتها- تعيين أول وزيرة مصرية في 25 سبتمبر 1962. وكانت “حكمت أبو زيد” محل ثقة الرئيس وتقديره.
حينها بدأت المحامية التي بلغت الأربعين من عمرها حملة ضخمة، تطالب بتعيين النساء قاضيات. في هذه المرة، كانت المساندة هائلة؛ أفرد لها أحمد بهاء الدين صفحات في مجلة المصور. وكذلك فعل عبد الله إمام في روز اليوسف. وفي الأهرام وفي كل مكان، كانت كريمة علي حسين هي صوت التغيير.
محامية ناجحة “شابه” تستلهم روح الثورة ومواد الميثاق الوطني من أجل اقتحام عالم يسيطر عليه الرجال. لذلك لم تكن تلك السيدة تشك لحظة واحدة في أنها ستخسر تلك المعركة؛ فالقيادة السياسية تشجعها من طرف خفي، والإعلام يجهر بمساندتها.. المعركة رابحة.
وصلت إلى مكتب فتحي الشرقاوي، الذي استقبلها بمودة. قال لها: “عندي لك رسالة من الريس”. انتبهت باسمه لتتلقي الرسالة، وهي تكاد تطير فرحًا. “بيقولك اصرفي نظر عن موضوع القضاء ده!!”. ثم أردف: “الرئيس مؤمن بما تقولين وهو يرى أنه لابد أن تدخل النساء في عهده إلى القضاء، ولكن المعركة مع الأزهر والتيارات الدينية شديدة. هم يعتبرون الميثاق الوطني وما تضمنه اتجاه إلى أن تتبنى الدولة المبادئ الشيوعية. وهي في نظرهم كفر وإلحاد”. سكت قليلًا ثم نظر إليها، وقال: “الموج عالي.. ولكن الرئيس طلب مني أن أسألك عن أي شئ تريدينه بديلًا عما تطلبين”.
خرجت المحامية الشابة من المعركة مهزومة. ولكنني اليوم أتصور أن أكثر من شعر بالهزيمة كان هو الرئيس عبد الناصر نفسه، الذي اكتشف -وقتها- أن الأزهر أقوى منه. تركت كريمة علي حسين المجال العام بعدها. انطوت على ذاتها، واهتمت بعملها، وظلت المطالبة بتعيين النساء قضاة مطروحة على المجتمع، تظهر أحيانًا وتختفي في كثير من الأحيان، ولكن لا يطويها النسيان.
دخلت النساء في اليمن والأردن وسوريا والسودان وتونس وغيرها من بلدان العرب إلى سلك القضاء، وظلت النساء المصريات محجوبات عن منصه العدالة، دون سبب واضح، إلا ضعف الساسة ونفاقهم، ومن سطوة التيارات الدينية وتشددها، ومن عدم رغبة الرجال في أن يخلقن منافسة لهم في ميدان كان يبدو أنه حكرًا عليهم.
في أبريل 2007 ووسط معارضة واسعة من القضاة، أصدر الرئيس حسني مبارك قرارًا بتعيين إحدى وثلاثين قاضية في القضاء المدني، بعد أن كان قد نجح في عام 2003 في إدخال أول سيدة إلى المحكمة الدستورية العليا.
ورغم أهمية تلك المحاولات إلا أنها كانت تتم علي طريقه “إذ بليتم فاستتروا” و”العورات تستر ولا تعلن!!”. فقد ظل الجسم القضائي كله يرفض قبول النساء ضمن أعضاؤه بحجج كلها داحضة.
أذكر أنه في عام 2012 وكانت القضية قد عادت تطرح نفسها بعد اندلاع ثورة يناير أن اتصل بي قاضي من أكابر رجال القضاء وأكثرهم علمًا وحكمة وتولي منصب وزير العدل، معاتبًا على رأي كنت قد أبديته حول الموضوع. في نهاية المكالمة الطويلة الودودة، قال لي: “يعني يا أستاذ نجاد توافق تقف أمام قاضية ست تترافع”. وقلت له ضاحكًا: “يا معالي المستشار أنا يهمني أن أقف أمام قاض عادل مستقل.. لا شأن لي بجنسه ولا دينه”.
لكن مع كل هذا الرفض والمقاومة، كان مجلس الدولة يبدو وكأنه قلعة الرافضين ومحراب المحافظين، عصيًا على الاقتحام.
في نهايات عصر مبارك عام 2010، حاول المستشار محمد الحسيني رئيس مجلس الدولة أن يدفع بالنساء ليجلسن على تلك المنصة العريقة. وقتها هاج المجلس وماج وطالت الرجل من زملائه غمزات ولمزات في نزاهته، إلى درجة أن عقدت جمعية عمومية خاصة لقضاة مجلس الدولة، رفضت بالإجماع تعيين النساء في منصب قضائي.
ظل مجلس الدولة على موقفه العنيد من تعيين النساء في القضاء، وقاد عملية الرفض قضاة يعتبرون قامات شامخات في دعم الحريات واحترام حقوق الإنسان، ولكنهم كانوا عند تلك النقطة المفصلية يرفضون مجرد مناقشتها بحجج واهية لا يمكن تصور أن تصدر عن شخص متعلم، فضلًا عن قاض خبير.
عند مناقشة التعديلات الدستورية في يناير 2014 تصدى مجلس الدولة بشراسة لنص المادة 11، والتي كانت تنص على “حق المرأة في التعيين في الجهات القضائية كافة”. وقتها رفع مجلس الدولة صوته بالرفض.
قال رئيس المجلس -في تصريحات صحفية نشرت في 20 يناير 2014: “إن رفض تعيين المرأة بالمجلس جاء تطبيقًا لقرار الجمعية العمومية في عهد المستشار محمد الحسينى، رئيس مجلس الدولة الأسبق برفض تعيين الإناث”، مؤكدًا على أنه لا يملك إلغاء هذا القرار، ولا تملك أي سلطه أخرى ذلك، لا رئيس الوزراء ولا رئيس الجمهورية، ويبقى القرار في سلطة الجمعية العمومية لمجلس الدولة فقط. ولكن جاء الرئيس السيسي إلى الحكم بجدول أعمال مختلف، فيما يتعلق بالنساء ومشاركتهن في الحياة العامة.
في 2 يونيو 2021 تمكن الرئيس من إسقاط أهم قلاع الممانعة الواهية. اجتمع الرجل بالمجلس الأعلى للهيئات القضائية، وانتهى الاجتماع الذي لا يعرف أحد ما دار فيه بقرار هو الأهم في تلك المعركة الطويلة.
بدأ عمل العنصر النسائي في مجلس الدولة والنيابة العامة اعتبارًا من 1-10-2021. يومها قال البعض متشككًا إن هذا القرار “ترضية” للرئيس، وإنه سيتم عن طريق نقل بعض السيدات من النيابة الإدارية إلى مجلس الدولة لينزوين في ركن مهمل هناك!! قالوا أيضًا إنه “لن يتم السماح للنساء حديثات التخرج بالتقدم إلى وظيفة مندوب مساعد أو وكيل نيابة إطلاقًا”. ولكن يبدو أن الرئيس ظل مصممًا على استكمال معركته إلى نهايتها.
في الأول من فبراير 2022 تبين أن الأمر جد لا هزل فيه. أعلن مجلس الدولة عن بدء تلقي طلبات التعيين في وظيفة مندوب مساعد للخريجين الجدد من الذكور والإناث. وأظن أن النيابة العامة ستحذو حذوه في مقبل الأيام.
اليوم لا تنتهي القصة. سيكون على القاضيات الجدد أن يثبتن أنهن حتى أفضل من أقرانهن الرجال، سيظل الكثيرون يحاولون أن تصيد أخطائهن ليثبتوا أن النساء لا يصلحن لمثل هذا المنصب الحساس. ولكن الأمر قد انتهى، وسيتشرف هذا الجيل من المحامين الرجال بالترافع أمام القاضيات من النساء، وسيبدأ تاريخ جديد للعدالة في مصر.
اليوم ستهدأ أرواح كريمة علي حسين وعائشة راتب وغيرهن ممن حلمن باليوم الذي تجلس فيه المرأة على منصة القضاء، تقيم العدل بين الناس، وتعيد الحقوق إلى أربابها. اليوم نتعلم مجددًا أنه ما ضاع حق وراءه مُطالب، وأنه مهما تأخرت الحقوق، فإنها ستصل إلى مستحقيها في الوقت الملائم.
فعل الرئيس السيسي ما لم يستطيعه الرئيس عبد الناصر، وما لم ينجح في استكماله الرئيس مبارك. ربما هذا أيضًا درس مفيد.. بغير الإرادة السياسية الحقيقية النابعة من ظروف داخلية مواتية لن يتطور أي حق من حقوق الإنسان أيًا كانت أهميته أو إصرار المدافعين عنه.