على عكس باقي تراث النوبة الذي أغلبه قد اندثر بعد التهجير. استمرت الموسيقى والأغاني النوبية القديمة التي لاقت انتشارا واسعا داخل وخارج مصر. ويرجع ذلك إلى العديد من الأغاني النوبية التي تؤدى باللغة العربية ولكن بلهجة النوبيين.
وقد أدى بناء السد العالي في أسوان “1964” وتهجير 113000 نوبي إلى مواجهة صدمة الخسارة والحزن وخلق نوع جديد في الموسيقى النوبية يسمى أغاني التغير أو أغاني التهجير. وهي نتاج صعوبات التهجير التي يندب فيها النوبيون فقدان منازلهم.
تشكل هذه الأغاني أرشيفًا حيًا وتسهم في سرد تاريخ لا يرويه النوبيون إلا في قصصهم قبل النوم. وفي التجمعات وفي النوادي النوبية ومن خلال منصات التواصل الاجتماعي.
أنت من النوبة.. إذًا تغني
إذ يحب جميع النوبيين الغناء ومشاركة أغانيهم. في حين تم تناقل الأغاني التراثية التقليدية منذ ما لا يقل عن ثلاثمائة عام وتغنيها الأجيال المتعاقبة -كل واحدة تضيف إحساسها الفني وبيئتها الخاصة.
يولد الطفل النوبي في بيئة محبة للفنون. حيث يحتفل بالغناء مع الأسرة ومجتمع القرية أو النجع بالولادة. ويغنون أثناء إحضار الطفل إلى نهر النيل المقدس ليغسل وجهه بماء النيل -وهو حفل يمزج بين الدين والمعتقدات القديمة ليتمنى ويضمن للطفل حياة سعيدة ومزدهرة. والنوبيون يغنون في المنزل. لذلك من الواضح أن الأطفال النوبيين يكبرون وهم يشاركون الأغاني مع أشقائهم وأصدقائهم وفي المدرسة وفي الاستراحة بين الدروس.
وفي هذه المرحلة المبكرة يطور العديد من المطربين والشعراء والموسيقيين في المستقبل مواهبهم. بينما تغني النساء أثناء أداء واجباتهن المدرسية أو إنتاج الحرف اليدوية الجميلة. يغني الرجال أثناء العمل في الحقول. بعد العمل يجتمعون إما في المنزل أو يجلسون تحت الأشجار ويغنون معًا مرة أخرى.
توجد آلة موسيقية واحدة على الأقل في كل منزل نوبي. وهو الدف النوبي. يبدأ المغني الرئيسي الأغنية وباقي الجموع تردد الكلمات أو تغني لازمة من ورائه. يبرع لاعبو الدف -عادة ثلاثة منهم- في الإيقاع أو بآلة “النقرة” -طبلتان من الخشب مغطى بجلد حيوان. معززين بالتصفيق اليدوي من قبل الباقين.
بعض المشاركين يرقصون رقصات الفولكلور “الأراجيد” بخطوات إيقاعية متنوعة وحركات ذراع منسوجة أو منسقة لتشكيل فرقة ممتعة للغاية. ولا عجب أن النوبيين يستمتعون بالغناء والرقص لساعات خلال حفلات الزفاف أو الاحتفالات الأخرى. حيث تجمع الاحتفالات القرية بأكملها وتستمر لساعات على عكس السكان العرب المجاورين.
وداعا للنخيل
ينشد النوبيون أيضًا الأغاني ذات المحتوى الديني في مواسم الحج والعمرة -استنادًا أيضًا إلى الإيقاعات والألحان النوبية الجذابة والمتفردة بالسلم الخماسي.
وكانت الأغاني النوبية القديمة -قبل التهجير- تمارس من خلال ثلاثة أنواع: طقوس الزواج والولادة-الاحتفالات الدينية-الطقوس الزراعية. واختفى هذا الأخير تمامًا من الثقافة النوبية نظرًا لأن المحصول الذي تم الاحتفال به -النخيل- لم يعد يُزرع بعد التهجير لعدم ملاءمة البيئة في مناطق التهجير الجديدة. والتي أسهمت في تشكيل المجتمع النوبي وانعكس ذلك في البيئة الصوتية والممارسات الموسيقية في قرى النوبة المهجرة اليوم.
ويعيش النوبيون في جنوب مصر وشمال السودان. رغم أن العديد منهم يعيشون في القاهرة ومدن أخرى. ولا يزال من الممكن سماع الموسيقى الشعبية النوبية بينهم لكن الهجرة والاتصال بالثقافات الموسيقية الأخرى أنتجت ابتكارات جديدة. وخلقت اندماجا مع موسيقى الجاز. في حين أن النقد الاجتماعي لمحمد منير -كابن من أبناء النوبة- والبوب الراقي جعله نجمًا بين أهل النوبة والمصريين عموما وغيرهم في جميع أنحاء العالم.
أحمد منيب -معلم محمد منير- كان إلى حد بعيد المطرب النوبي الأكثر شهرة في المشهد الموسيقي المصري. حيث غنى باللغتين العربية المصرية ولغة موطنه النوبية. أما حمزة علاء الدين فهو فنان نوبي شهير في المشهد الموسيقي العالمي وقد تعاون مع فرقة كرونوس الرباعية.
وأهم ما يميز الأغاني والموسيقى النوبية القديمة هو استخدام الدفوف والتصفيق. أما عن الآلات الموسيقية النوبية النموذجية فهي الربابة “نوع من الكمان ذي الوتر الواحد”. والعود وآلات الإيقاع المختلفة مثل الطنبور. وفي الوقت الحاضر تُستخدم أيضًا الأدوات الموسيقية الحديثة التي ينجذب لها جيل الشباب.
من الساقية إلى الحنة وحدوتة مصرية:
يأتي حمزة علاء الدين في مقدمة أشهر المطربين الذين تغنوا بالنوبية القديمة “1929-2006”. فقد ولد في توشكي القديمة وعاصر التهجير الكبير. وعرف باسم “أبو الموسيقى النوبية”. عمره الدقيق غير معروف. لكن تشير التقديرات إلى أنه بلغ 75 عامًا عندما توفي. كان حمزة أول موسيقي نوبي يؤلف موسيقى للعود كأداة منفردة.
وفي عام 1964 غنى للجمهور الأمريكي فأصدرت له شركة “فانجارد ريكوردز” ألبومه “موسيقى النوبة”. بالإضافة إلى ألبوم مشهور آخر هو “إسكاليه” أو “الساقية”.
كان لهذا الألبوم تأثير كبير على النوع الشائع الآن من “الموسيقى العالمية” مثل البلوز.
وبعد هجرة حمزة علاء الدين إلى أمريكا كان له تأثير قوي على الثقافة الموسيقية للأمريكيين من أصل أفريقي. ومن أشهر أغاني حمزة علاء الدين “الساقية-أنا فاكر-أغنية مع الدف النوبي-أساراماسو أي حين كنا صغارا.
أما علي حسن كوبان “1929-2001” فعرف بأنه أول مطرب نوبي يكوّن فرقة موسيقية تعزف على آلة “القربة” الموسيقية في الأعراس النوبية بالقاهرة. وفي بداية الخمسينيات أضاف بعض الآلات الغربية مثل الساكسفون والجيتار الكهربائي والباص والأرغن والأوكرديون والبوق. وذلك بعد أن أبرم تعاقدا مع الأسطوانة الألمانية Piranha. وأصبح معروفا دوليا في نوع الموسيقى العالمية. ومن أشهر أغانيه “الحنة-سكر..سكر- أميرة- يا نسمة-نوبة”.
منيب.. من التهجير إلى الإسكندرية
أما أحمد منيب “1926-1990” فقد ولد في قرية توماس وعافية بمنطقة التهجير القديمة. وقد انتقل إلى الإسكندرية عام 1939 بعد “التهجيرات الأولى”.
نشأ “منيب” متشبعا بكل القيم الثقافية والفنية والتراثية للحضارة النوبية. كما كانت له زيارات متعددة للنوبة لجمع التراث الفني النوبي. ومع مطلع الخمسينيات أصبح “منيب” من أشهر مطربي وعازفي العود لكل حفلات وأعراس النوبيين في الإسكندرية. وقد التحق وقتها بفرقة زكريا الحجاوي -رائد الفن الشعبي- لتتاح له فرصة الالتقاء برموز وأدباء وشعراء النوبة مثل الشاعر محيي الدين صالح والفنان حمزة علاء الدين.
ومع أواخر سبعينيات القرن الماضي بدأ “منيب” يطرح أغنية بديلة للنمط السائد والمسيطر حينها. فدخل بألحانه المصرية الصميمة مع صوت محمد منير وبكلمات جديدة لشعراء كبار مثل عبدالرحيم منصور ومجدي نجيب وسيد حجاب وصلاح جاهين. ومن أشهر اغانيه “مشتاقين-بلاد الدهب-يا وعدي على الأيام”. كما قام بتقديم ألحان لمطربي الجيل وقتها مثل علاء عبد الخالق وعمرو دياب وإيهاب توفيق وحميد الشاعري.
ويأتي الختام مع المطرب محمد منير الذي ولد في أسوان عام 1954. ويحظى إلى الآن بشعبية كبيرة. ليس فقط في العالم العربي ولكن أيضًا أبعد من ذلك على المستوى العالمي.
وتعود جذور أسلوبه الموجه إلى موسيقى البوب للموسيقى المصرية والأفريقية. كما أن موسيقى أغانيه مستوحاة من موسيقى الريجي والجاز. وغالبًا ما تكون أغانيه اجتماعية وسياسية.
كان أداء “منير” لافتا وقت ظهوره مع اختلافات اللحن والكلمات والغناء. ومن أشهر أغانيه النوبية والتي يرددها الشباب في مصر والعالم دون فهم معنى كلماتها “نيجر بيه-شمندورة-سيا سيا- أباياسا” والأخيرة تتحدث عن أمل النوبيين في العودة إلى أماكنهم الأصلية.