انطلق المؤتمر الشرق الأوسطي “فالداي” في دورته الحادية عشرة، تحت عنوان “روسيا والشرق الأوسط: التقارب الاستراتيجي وتداخل المصالح”. حيث تناول السياقات الحاكمة للسياسة الخارجية الروسية تجاه دول الشرق الأوسط. ذلك في ظل المتغيرات العالمية الجديدة فيما يتعلق بموقف الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين إزاء دول الشرق الأوسط. كما أشار إلى نجاح الوسائل الدبلوماسية والسياسية التي انتهجتها روسيا في إطار علاقتها بدول المنطقة. الأمر الذي مكنها من اكتساب قدر واسع من النفوذ الدولي. فضلّا عن أبعادها الإقليمية من حيث توثيق علاقة روسيا بالقوى الإقليمي في الشرق الأوسط، وعلى رأسها إيران وإسرائيل، حتى تتمكن من تطويق المنطقة بأكملها.
هل تحتاج روسيا استراتيجية جديدة للشرق الأوسط؟
حاول المؤتمر صياغة أولويات الاستراتيجية الروسية تجاه دول الشرق الأوسط، في ضوء تطور السياق العالمي من خلال عاملين مؤشرين:
التراجع الأمريكي.. المجال المفتوح أمام روسيا
إذ لم يعد الشرق الأوسط يمثل أولوية بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية. بل، على العكس تحولت الإدارة الأمريكية نحو آسيا والمحيط الهادئ. وهو ما يفسر الانسحاب الأمريكي من الصراعات اللانهائية، لاسيما في العراق. ذلك في حين تحافظ الولايات المتحدة على قواعدها في قطر وغيرها دول الخليج. ما يفسح المجال أمام روسيا لبسط نفوذها كقوة رئيسية في الشرق الأوسط، والتفاعل في القضايا الإقليمية.
توافق روسيا والصين
تتقارب العلاقات الروسية الصينية في جبهة موحدة أمام الولايات المتحدة والغرب تجاه عديد من القضايا، في محاولة لوضع أسس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. وعلى صعيد الشرق الأوسط، اتجهت الصين وروسيا نحو تعزيز موطئ قدم في المنطقة، على سبيل المثال، موقفها الموحد في مجلس الأمن لمنع إدانة نظام الأسد. ذلك إضافة إلى التحالف المشترك الذي يجمعهما مع إيران. كما استطاعت الصين ضم سوريا مؤخرًا إلى مشروع الحزام والطريق.
اقرأ أيضًا: هل تستطيع روسيا ملء الفراغ الأمريكي بالخليج؟
روسيا ومحددات السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط
تقوم سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط على 3 ركائز رئيسية: ضمان الأمن، وبناء أوراسيا الكبرى، وإنشاء إطار دولي موات للانتقال التكنولوجي.
الأمن والدفاع
يشكل التدخل الروسي في سوريا عام 2015، بمثابة نقطة تحول في السياسة الخارجية الروسية. حيث اتخذ الوجود الروسي في سوريا أبعاد عسكرية وسياسية. وجاءت المبررات الروسية بدافع دحر الإرهاب، وتحقيق التوافق بين الجماعات العرقية المختلفة. بينما حاولت مزاحمة الولايات المتحدة على الأراضي السورية، وإخراج الأتراك من سوريا والمنطقة بأكملها.
وعلى المستوى الأفريقي، سارعت روسيا بنشر قوات شركة فاجنر في ليبيا وأفريقيا الوسطى. ذلك بهدف تغليب الاستحواذ العسكري لصالحها أمام أي قوى أخرى.
بناء أوراسيا الكبرى EAEU
يشكل مشروع أوراسيا الكبرى أبرز محركات السياسة الخارجية الروسية. حيث تضم نحو 65% من سكان العالم، وما يقرب من 75% من موارد الطاقة، وكذلك 40% من الناتج المحلى الإجمالي العالمي.
وبدأت فكرة المشروع في عام 2015. وهو يتكون من الاتحاد الاقتصادي الآوراسي والحزام الاقتصادي لطريق الحرير والاتحاد الأوروبي من أجل تحرير العلاقات التجارية بين هذه الكيانات وتحقيق التنمية المشتركة. كما يمنح المشروع روسيا موطئ قدم في الخليج الفارسي. وأيضًا يشكل فرصة كبيرة أمام الإمارات، نظرًا لدورها الريادي في الشحن والنقل اللوجيستي. وكذلك هو الأمر بالنسبة لقطر وعمان والكويت والعراق وإيران.
ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب INSTC
يرى “إيفجيني فينوكوروف”، كبير الاقتصاديين في بنك التنمية الأوروبي-الآسيوي خلال المؤتمر، أن المشروع يساهم في تشكيل نظام نقل ولوجستي إقليمي كلي في إطار النقل الأوروبي الآسيوي. ما يمثل أساسًا لتطوير شراكات تجارية واستثمارية داخل أوراسيا، من الخليج والمحيط الهندي عبر القوقاز وآسيا الوسطى.
ومن المتوقع، أن تصل حركة شحن الحاويات بين روسيا وبين دول جنوب آسيا والخليج إلى 245000 – 501000 حاوية مكافئة (4.4 إلى 9 مليون طن)، أو حوالي 75% من إجمالي حركة الحاويات المحتملة، كذلك، أن يتراوح تدفق شحنة الحبوب المعبأة وغير المعبأة في حاويات إلى 14.6 – 24.7 مليون طن بحلول عام 2030.
خلق بيئة مواتية لرفع القدرات التكنولوجية لروسيا
في السنوات الأخيرة، نشط الدور الروسي في دول شرق وجنوب آسيا بدافع الاستفادة من القدرات السيبرانية والتقدم التكنولوجي. وبدأت روسيا في تعزيز علاقتها مع دول الشرق، لاسيما إسرائيل والإمارات في مجالات الاقتصاد الرقمي، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في مختلف قطاعات الاقتصاد والإدارة والخدمات الاجتماعية.
الأولويات دون الإقليمية في سياسة روسيا في الشرق الأوسط
حافظت روسيا على توطيد علاقاتها مع مختلف الدول في المنطقة. ولكن لم تكن على نفس المسافة وفق لخصوصية العلاقات الثنائية بينها وبين كل دولة، بهدف الحصول على ثقة الجميع، وبشكل خاص إيران والسعودية والإمارات.
ويمكن رصد طبيعة العلاقات بين روسيا ودول الشرق الأوسط من خلال بعض النماذج:
مصر
تحافظ روسيا على علاقتها مع مصر باعتبارها دولة عربية ذات ثقل مركزي في الشرق الأوسط. وقد وقع الطرفان اتفاقية الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي التي دخلت حيز التنفيذ في يناير 2021. وتغطي مجموعة واسعة من مبادرات التعاون تستهدف تهدف تحديث الاقتصاد المصري، وخلق نفوذ روسي في المنطقة الاقتصادية الخالصة من قناة السويس، ونقل التكنولوجيا الروسية، وبناء محطة الضبعة للطاقة النووية في مصر، فضلًا عن نقل التقنية العسكرية الروسية إلى مصر.
السعودية
وصف نائب رئيس الوزراء “ألكسندر نوفاك” السعودية بمثابة شريك استراتيجي. وقد ساعدت أوبك بلس في توثيق العلاقات بين الدولتين لتنظيم سوق النفط العالمي. كما تسعى روسيا للعب دور هام في تشكيل منطقة أمنية دولية في الخليج الفارسي. وبالتالي تصبح طرفًا في نظام الأمن الجماعي الإقليمي المستقبلي.
إيران
تتعاون روسيا مع إيران في الشرق الأوسط لاسيما في سوريا التي تعتبر ركيزة الدفاع الرئيسية بالنسبة لروسيا في الشرق الأوسط. وتعتمد روسيا على إيران في تأمين جميع احتياجات سوريا فيما يتعلق بمرحلة ما بعد الحرب إعادة الإعمار، إضافة إلى أن إيران تلعب دور رئيسي في مشروع أوراسيا الكبرى.
اقرأ أيضًا: هل يحمل العام الجديد تحالفا استراتيجيا بين روسيا وإيران؟
إسرائيل
تطوير العلاقات مع إسرائيل هو أحد أولويات روسيا في الشرق الأوسط. وقد جاء ذلك بالتوازي مع اتفاقية آبراهام التي تضمنت توطيد العلاقات بين 4 دول عربية وإسرائيل. ما يخدم أهداف السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط. ولكن يمكن رصد تحديات العلاقات الروسية الإسرائيلية في 3 نقاط، الموقف من القضية الفلسطينية. كما تعارض روسيا ضم إسرائيل لمرتفعات الجولان.
كذلك بالنسبة للمواجهة الإسرائيلية الإيرانية في سوريا، اتخذت روسيا موقفًا حياديًا يتسم بغض الطرف عن التهديدات الإيرانية تجاه إسرائيل أو الضربات الإسرائيلية ضد إيران والقوات الموالية لإيران في سوريا.
تركيا
تركيا هي أكبر شريك تجاري واقتصادي إقليمي لروسيا. إذ بلغ حجم التجارة حوالي 30 مليار دولار في عام 2021. كما أنها الشريك الأول لروسيا فيما يتعلق بنقل الغاز وتوزيعه إلى دول أوروبا من خلال خط ترك ستريم. وكذلك تلعب تركيا دور رئيسي في خدمة أجندة السياسة الروسية في الشرق الأوسط.