جرى تحميل أجندة زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري “المفاجئة” إلى موسكو الكثير من البنود والملفات والتفاصيل التي تخل بأسس وأصول أي مباحثات عقلانية وتحولها إلى فقاعة إعلامية. إذ تم تضمينهاالعلاقات الثنائية والتجارة والصناعة والطاقة النووية والقمح والبرتقال والمنطقة الصناعية ومفاعل الضبعة، وانتهت ببحث الأزمة بين روسيا وأوكرانيا وأزمة سد النهضة والمخاوف من اندلاع حرب عالمية ثالثة وقصف نووي، ولم يستبعد “الخبراء والمحللون” أن تكون قد حملت أيضا مباحثات حول الملف النووي الإيراني والحرب في اليمن والأزمة السورية والوضع في ليبيا والأزمة الفلسطينية والأمن الإقليمي والدولي وحقوق الإنسان.
في الحقيقة، هذه الزيارة ليست مفاجئة لأن شكري عادة ما يزور موسكو في نهاية العام أو بداية العام التالي له وفق برنامج مباحثات ثنائية تقليدي بين البلدين يمتد لسنوات طويلة سابقة. ولكن ما حدث هو أن الجانبين إما نسيا التنويه في وسائل الإعلام ونشر خبر أو اثنين عن هذا اللقاء التقليدي، أو تعمدا عدم نشر أي شيء تفاديا لتعكير زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين للقاهرة.
اقرأ أيضًا: زيارة بلينكن.. الدعم الاقتصادي مقابل ملفات روسيا وليبيا وحقوق الإنسان
الأمر الآخر، هو أن الزيارة تأتي بعد زيارة بلينكين بساعات للقاهرة، فهذا أيضا لا يعني أي شيء على الإطلاق، لأن علاقات مصر والولايات المتحدة، هي علاقات استراتيجية قائمة على عدة مبادئ أساسية من الصعب تجاهلها أو التقليل من شأنها. والقاهرة بحاجة إليها قبل احتياج واشنطن لها. مع العلم أيضا بأن زيارة بلينكين للقاهرة لم تكن لا سرية ولا مفاجئة، وإنما كانت معروفة قبل حدوثها بوقت طويل.
من الطبيعي أن يُطلع شكري نظيره الروسي سيرجي لافروف على نتائج زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لكل من الهند وأذربيجان وأرمينيا. وفي المقابل يصبح من الطبيعي أن يطلع لافروف نظيره المصري على الموقف في أوكرانيا، وأن يقترب الحديث من الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي الذي تريد روسيا جر مصر إليه، وهو اتحاد غير فاعل وغير مفيد ولا يتضمن أي مزايا حتى للدول الفقيرة غير المستقرة الموجودة فيه. فهو عبارة عن مجرد هيكل هش يتم تضخيمه بالصور الذهنية والأرقام الملفقة و”الطموحات والآمال”، ويجرى استخدامه سياسيا في المناسبات، ويتضمن العديد من التناقضات التي تقترب من الحروب بين أعضائه.
ومن الطبيعي أيضا أن يتحدث الطرفان عن مجموعة “بريكس” وآفاق انضمام مصر إليها، ثم تصدر أخبار ومعلومات مجهولة المصدر بانضمام مصر والسعودية والجزائر إلى مجموعة “بريكس” التي تضم الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل، بينما مجموعة “بريكس لديها الكثير من المشاكل “الوجودية” قبل السياسية والاقتصادية. وتعتمد سمعة هذه المجموعة على الأرقام “الجبارة” التي يتم الإعلان عنها لصنع صورة ذهنية محفزة على الانضمام إليها أو الحلم بالانضمام إليها، بينما هي مجموعة غير فاعلة، ولدى دولها مشاكل داخلية، وهناك مشاكل بينية مدمرة، مثلما بين الهند والصين على سبيل المثال.
لقد جرى تحميل زيارة شكري التقليدية تماما لموسكو الكثير من الأعباء والأوهام، وتضخيم الأمور والنفخ الإعلامي. فروسيا لن تحل القضية الفلسطينية. كما أن رباعية الشرق الأوسط مجمدة، وربما تكون قد ماتت تماما وتجاوزها الزمن بفعل الأمر الواقع وعمليات التطبيع التي جرت في العامين الأخيرين بين إسرائيل من جهة وبين والإمارات والبحرين والمغرب والسودان من جهة أخرى. ناهيك عن علاقات قطر وتركيا والسعودية بتل أبيب من جهة أخرى. إضافة إلى أن دوري كل من القاهرة وموسكو في القضية الفلسطينية، دوران متنافسان وليسا مكملان لبعضهما البعض. وهما دوران متصارعان، منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد وتهميش دور روسيا التي لم تكن ضد الاتفاقيات لأسباب مبدئية، وإنما كانت ضدها لأنها تمت بدونها. وبالتالي، فتصريحات شكري ولافروف، كانت شكلية تماما، وتقليدية للغاية من قبيل غسل اليد لا أكثر. وبالطبع فموسكو استعلت الفرصة لتقرص أذن تل أبيب بسبب موقفها من الأزمة الأوكرانية، لا من أجل مواقف مبدئية في القضية الفلسطينية.
إن عروض الوساطة المصرية، سواء بين روسيا وأوكرانيا أو بين أذربيجان وأرمينيا، هي مجرد دعايات سياسية لا أكثر، لأن القاهرة لا تملك أي أوراق لهذه الوساطة، إلا التصريحات الدافئة، والعبارات التاريخية والدبلوماسية عن الإنسانية والعلاقات الاستراتيجية. ولكن هذه التصريحات والعبارات مسموح بها في السياسة الكبرى في حال إذا كانت الإمارات والسعودية والجزائر وتشاد والمغرب والسودان واليمن وتركيا ولبنان يعرضون هم أيضا وساطاتهم في إنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية، والحرب الأذربيجانية- الأرمنية. هنا يمكن أن نفهم دوافع التحرك المصري الذي تريد القاهرة أن تقول من خلاله إنها موجودة حتى وإن كان ذلك على مستوى الزيارات والتصريحات، بالضبط مثلما تفعل الأطراف الأخرى.
وفي الحقيقة، أذربيجان تتعاون في مجالات كثيرة مع إسرائيل مباشرة، وتتعاون مع الغرب والولايات المتحدة بشكل مباشر وبدون وساطات. بل وتعتبر شريكا موثوقا للغرب في مجال الطاقة حتى وإن كانت قد ابتعدت عن روسيا وباتت أقرب إلى تركيا. وهي أصلا من ضمن دول العالم التركي. أما أرمينيا فهي دولة تعتمد 100% تقريبا على روسيا، بينما تخلت عنها الأخيرة في نزاعها الدموي مع أذربيحان لصالح باكو ولصالح أنقرة من أجل ضمان ولاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يعتبر نفسه وصيا ليس فقط على أذربيجان ولكن على العالم الإسلامي الذي تسعى روسيا لصناعته وفق تصوراتها الذهنية وتتلاعب به سياسيا لمقارعة الغرب، بالضبط مثلما تفعل مع “القومية العربية”، وهي أصلا لا تستطيع أن تعمل على تقارب “العالم السلافي” أو جمعه حول هدف واحد. هنا لا دور للقاهرة. وهو ما ينطبق أيضا على دور القاهرة في أوهام الوساطة لإنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية.
إن الملفين الأهم بالنسبة للقاهرة، هما الملفان الليبي والسوداني، إضافة إلى ملف سد النهضة. هذه الملفات الثلاثة تعتمد فيها روسيا سياسة الكيد من جهة، وسياسة متعارضة تماما مع المصالح المصرية من جهة أخرى. بل وتتصرف في هذه الملفات الثلاثة وفقا لمصالحها حصرا، أو وفقا لمواءمات سياسية مع أطراف ثالثة، مثل تركيا أو الإمارات أو إثيوبيا. والقاهرة تعرف ذلك جيدا. وهناك سوابق لمواقف كل من القاهرة وموسكو، سواء بشأن الأزمة الأوكرانية أو بأزمة سد النهضة. وعلى الرغم من تورط روسيا في كل من سوريا وأوكرانيا حاليا، فهي لم تغير موقفها لا بشأن سد النهضة ودعم أثيوبيا، ولا موقفها في ليبيا من حيث نشاطات شركة “فاجنر” والتعاون مع تركيا، ولا في السودان من أجل الالتفاف لإنشاء قواعد عسكرية بحرية على البحر الأحمر.
هذه الزيارة “العادية جدا” تكللت إعلاميا بعشرات التصريحات عن الدفء والمحبة الاستراتيجيين، وتذكر السد العالي ومجمع الألمونيوم ومصانع الحديد والصلب والحديث عن أهمية الاستقرار من أجل تصدير القمح الروسي لمصر وإطعام شعبها الذي يعتمد بنسبة 100% على القمح الروسي. كما جرت الأحاديث الإعلامية حول الاستغناء عن الدولار واعتماد الروبل الروسي والجنيه المصري للتعامل التجاري بين البلدين. ولكن الزيارة انتهت كما بدأت: بكلام وتصريحات.
وفي الحقيقة، كل دولة من الدولتين تنظر في اتجاه آخر تماما. وهناك تناقضات جوهرية أكثر وأخطر بكثير من البروباجندا والدعاية السياسية التي تبدد عليها الدولتان موارد شعبيهما. أما مصير محطة الضبعة، فهذا أمر يتوقف على عامل الوقت، لأنه لا معلومات واضحة من جهة، ويتم باستمرار تغيير مواعيد البدء والتشغيل من جهة أخرى، ولا أحد يعرف مصيرها في ظل العقوبات ضد روسيا والتي من الواضح أنها ستتواصل حتى بعد انتهاء القتال في أوكرانيا. ويبقى فقط مشروع عربات القطارات التي تحاول روسيا تحويله إلى تميمة مثل السد العالي، وتؤكد أنه أكبر مشروع روسي مصري في التاريخ.. علما بأن هذاالمشروع هو مشروع ثلاثي بين مصر وروسيا والمجر، وهناك تمويلات أوروبية ضخمة. وروسيا تقوم بتصنيع العربات بالضبط مثل المجر، ولا شيء إعجازي في هذا الموضوع.
في الواقع، لقد ذهب شكري إلى موسكو، بصرف النظر عن الإخراج الفني للزيارة، من أجل ليس الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، ولا حتى من أجل إبلاغ رسائل أمريكية للكرملين، وإنما من أجل إبلاغ موقف القاهرة الرسمي من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا وانعكاسها على مصر ودول كثيرة أخرى. وكذلك لتوضيح تحركات القاهرة في قطاعات الغاز والنفط وبقية موارد الطاقة. ولا شك أن القاهرة وهي تبلغ موقفها هذا، تنتظر من موسكو أن تتحرك في ملفات “موجعة” مقابلة مثل سد النهضة والفوضى التي تثيرها روسيا وتركيا في ليبيا. أي أن شكري ذهب إلى موسكو لعرض “أوراق محددة”. ولكن تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الساخرة من مواقف الغرب ومن ضغوطه على الدول الأخرى لحصار روسيا غطت على “الرسالة المصرية” الحقيقية، أو بالأحرى، المقايضة المصرية. ما يعني أن الكرملين يسير قدما في حربه على أوكرانيا، وأنه لا يبالي بأي أضرار تقع على الدول الأخرى، إلا بما يطلقه من دعاية إعلامية عن الخير والشر والنور والظلام والإنسانية وتعدد الأقطاب، والبحث في “الدفاتر القديمة” عمن أباد الهنود الحمر وعن انتصارات العرب والمسلمين على أوروبا وعن الاستعمار الغربي لإفريقيا.
إن زيارة شكري لموسكو قد تكون مهمة بدرجات معينة من حيث عدم ترك المشهد كاملا لتحركات قطرية وإماراتية وسعودية، حتى وإن كانت كلها تحركات في المكان الواحد وتعتمد على تكريس صورة ما ذهنية لهذه الدول، و”تبروز” قادتها باعتبارهم فاعلين ومؤثرين. وهي زيارة مهمة أيضا من حيث إظهار حيادية القاهرة وعدم انحيازها. فبعد زيارة بلينكين للقاهرة، جرت أيضا زيارة شكري لموسكو. أي أن القاهرة تحافظ على المسافات بين موسكو وواشنطن، وتتعامل مع الاثنين وفق مبدأ تنويع العلاقات ومصادر السلاح والديون والمشاريع التي عادة لا تتجاوز البروباجندا والإعلانات والتصريحات الرنانة.
بعد مباحثات شكري ولافروف بيوم واحد فقط، أعلنت وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية قيام مصنع الإسالة بدمياط، منذ إعادة تشغيله في عام 2021، بتصدير 7.2 مليون طن غاز طبيعي لأول مرة في تاريخ المصنع نحو أوروبا. وقالت الوزارة إن هذا يحول المصنع إلى قطرة مهمة في مجال صادرات الغاز الطبيعي المسال ويساهم في تعزيز دور مصر كمركز إقليمي للطاقة في منطقه البحر المتوسط. وأشارت إلى أنه تم تصدير حوالي 60% من إجمالي الشحنات إلى أوروبا.
وفي نفس السياق، وقع رئيسا مجموعة “إيني” الإيطالية للنفط، والمؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا اتفاقا “تاريخيا”، لتطوير حقلين للغاز قبالة السواحل الليبية، خلال مراسم حضرتها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة الذي قال “إننا هنا اليوم لتوقيع أهم اتفاق في السنوات العشرين الأخيرة”، مشددا على أن طرابلس تنطلق من مصالح ليبيا حصرا. بينما الجزائر اتفقت مع إيطاليا على مد أنبوب للغاز، ووقعت مع فرنسا عقود بأربعة مليارات دولار. كل ذلك يعني أن التصريحات والزيارات شيء، والواقع والمصالح شيء آخر تماما. وهو أيضا ما تعتمده موسكو من أجل تحقيق مصالحها الوطنية والقومية. ومع ذلك يبقى الحوار، وتبقى العلاقات الدبلوماسية، وتعدد الشركاء والبحث عن المصالح الوطنية والقومية، بعيدا عن المغامرات والرؤوس الحامية.