يقف المثقفون في العلن مع حرية الإبداع ضد الرقابة، لكن ماذا لو جاءتهم الفرصة أن يحصلوا على سلطة الرقيب، هل يقفون بجانب حرية الإبداع أم أن تلك السلطة ستطلق الرقيب الكامن في أنفسهم في الأساس.
لا أملك إجابات، لكن أملك أسئلة وموقفا يثير التأمل والتفكير، من خلال ما حدث مع فيلم المذنبون إخراج سعيد مرزوق، وهو عن قصة لنجيب محفوظ وسيناريو وحوار ممدوح الليثي، وعرض للمرة الأولى عرضا عاما في 23 سبتمبر 1976، في سينما ريفولي، ليحقق نجاحا وإيرادا كبيرا حتى إن عرضه استمر 23 أسبوعا حتى جاء قرار وزير الإعلام والثقافة في ذلك الوقت، جمال العطيفي بوقف العرض وعدم تصديره للخارج وإعادته للرقابة مرة أخرى، ثم تطور الأمر إلى تحويل الرقباء اللذين أجازوه إلى الرقابة الإدارية، بسبب تقرير أعدته لجنة من كبار المثقفين.
يسرد فيلم المذنبون قصة جريمة قتل ممثلة، ومحاولة الشرطة الوصول للجاني، فيستمع المحققان لرواية كل متهم، حتى يصلا للجاني الحقيقي، لكن من خلال استجواب المشتبه بهم يتضح للمحقق أن كلا منهم ارتكب جريمة كبرى في حق المجتمع.
كان الفيلم بحسب ما ذكرته أمل عريان فؤاد في كتابها “سلطة السينما.. سلطة الرقابة”، قد وافقت عليه الرقابة بدون إجراء تعديلات. رغم حيرتهم بين العرض والمنع، إلا أن الظروف السياسية وقتها التي أتاحت شيئا من الحرية، خاصة في انتقاد عهد جمال عبد الناصر، جعلتهم يوافقون على عرض الفيلم، فعندما اعترضت الرقابة من قبل على بعض المشاهد في فيلم الكرنك، الذي سبق فيلم ” المذنبون” على بعض المشاهد كاغتصاب سعاد حسني في مكتب خالد صفوان، ومشهد محمد صبحي، وهو يذكر واقعة استشهاد المناضل الشيوعي شهدي عطية، وأيد الرقابة في ذلك وزير الثقافة يوسف السباعي، لكن جاءت أوامر عليا من أنور السادات شخصيا بعرض الفيلم كاملا دون إجراء أي تعديلات، فقد كانت فرصة لإدانة عهد سلفه ومراكز القوى.
كما أن الفيلم اختير ليمثل مصر في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأول، وعرض في اليوم الأول للمهرجان، وشهد إقبالا جماهيريا، وأشاد به النقاد، وحصل عماد حمدي عن دوره بالفيلم جائزة أفضل ممثل، واحتفت عدد من صحف العالم بالمهرجان بشكل عام، وبالفيلم بشكل خاص.
لذا لم يجد الرقباء حرجا في التصريح بعرضه جماهيريا، لكن توالت العديد من الخطابات إلى مجلس الشعب من المصريين المقيمين في الدول، يشتكون من أن فيلم المذنبون ومن قبله فيلم الكرنك وعدد آخر من الأفلام المصرية تسيء إلى سمعة مصر والمصريين في الخارج.
أحال المجلس تلك الخطابات إلى وزير الثقافة والإعلام لاتخاذ اللازم، فكان قرار الوزير الأول هو المنع، والعطيفي لعب دورا كبيرا في “أسلمة” وسائل الإعلام في تلك الفترة، رغم دوره الكبير اللافت في مناحي أخرى.
لم يكتف الوزير بقرار المنع، بل طالب بإعادة صياغة أسلوب وسياسة جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، أثار منع الفيلم حفيظة المثقفين والقائمين على صناعة السينما، وصناع الفيلم، فقرر الوزير تشكيل لجنة تحدد مصير الفيلم من مثقفين يمثلون تيارات فكرية مختلفة.
فتشكلت لجنة من د. أحمد خليفة رئيس مركز البحوث الاجتماعية والجنائية، رئيسا وعضوية د. سهير القلماوي، وأمينة السعيد ود. عبد الأحد جمال الدين، ويوسف إدريس والمخرج أحمد جمال مرسي.
انتهت اللجنة من عملها، ورفعت تقريرا مطولا إلى وزير الإعلام والثقافة، جاء فيه التالي:
إن حافز الربح أو حتى الاعتبارات الثقافية لا يمكن أن تكرس الإباحية في المجتمع، وفي فيلم “المذنبون” وإن لم يكن فريدا في ذلك- أمثلة على ذلك من مشاهد صارخة لا نجد لها مبررا.
إن السينما فكر وفن إلى جانب أنها صناعة وتجارة وتصدير للإنتاج السينمائي للخارج لابد أن يخضع لشروط تؤكد مستواه وعدم المساس بسمعة البلاد.. فلا نهون من شأن أنفسنا، ولا نتاجر بآلامنا النبيلة استرضاء للسوق وسعيا وراء الربح. كصورة إعارة المصريين إلى الدول العربية والصورة المشوهة الكئيبة للتزاحم على الدجاج في المجمعات.
ثم اختتمت اللجنة تقريرها بتوصيات للدولة تؤيد فيه الرقابة؛ لأنها تحمي النشء، وطالبت بحظر بعض الأفلام على من هم دون الثمانية عشر عاما، وأن يراعى وضع الرقابة في أيد واعية مستنيرة، ثم طالبت بالتحقيق مع لجنة الرقابة التي أجازت الفيلم.
فقرر العطيفي بناء على هذا التقرير الذي أعده مثقفون إحالة ملف الفيلم بالكامل إلى النيابة الإدارية لمعاقبة جهاز الرقابة مع قرار بعرض الفيلم بعد تصنيفه كفيلم للكبار فقط.
لم يلتفت تقرير المثقفين، أو يذكر شيئا عن دور الإبداع والسينما في عرض الفساد في المجتمع، بل زايد تقريرهم على الرقابة نفسها، وأحالوها للتحقيق في واقعة غريبة ودورا من المفترض أن يكون معكوسا.