قام معاوية بن أبي سفيان بتوريث الحكم لعائلته بالمخالفة للقاعدة التي كانت سائدة وقتئذ، وهي الشورى بين أهل الحل والعقد لاختيار الخليفة، وأرسى قاعدة جديدة وهي التوريث بالنسب، ورغم ما قام به معاوية من تغيير لنظام الحكم في الدولة الإسلامية، فقد وجد في التاريخ من يبرر له بأن الخليفة في قراره هذا كان يقصد حقن دماء المسلمين وإنهاء الصراعات على كرسي الخلافة، فقد اتسعت رقعة الدولة وبات من الصعب تحقيق مبدأ الشورى، حيث جاء معاوية إلى الحكم بعد 3 خلفاء قتلوا طمعا في الكرسي، وتتجدد الفتنة في كل مرة بعد مقتل الخليفة، حيث يشتعل السؤال “من يخلف الخليفة؟”.
بعد قيام ثورة يوليو 1952 وإلغاء نظام الملكية وإسقاط الدستور، كان هناك ثمة سؤال يراود المثقفين يطرحونه سرا ولا يجدون له إجابة، كان هذا السؤال هو “من يخلف الرئيس جمال عبد الناصر في حكم مصر؟”، ولأن السؤال كان خطيرا حينئذ، حيث كانت الصراعات داخل مجلس قيادة الثورة على أشدها، كانت تلك المناقشات تتم همسا وفي جلسات مغلقة، ثم تم حسم الإجابة في خطوتين، وفاة عبدالحكيم عامر وتولي السادات منصب نائب الرئيس.
تكرر بعدها المشهد في نقل الحكم من السادات إلى مبارك، حيث بدت وكأنها آلية تداول الحكم وفق نظام يوليو، الرئيس لا يترك الحكم الا بعد موته، ويخلفه في الحكم من اختاره قبل وفاته، ولهذا السبب ولأسباب أخرى تخص الوضع الدولي والإقليمي والصراعات الداخلية، لم يقدم مبارك على خطوة تعيين نائب له، وهو ما تسبب في إثارة سؤال الخلافة خلال سنوات حكمه، وقد وجد هذا السؤال إجابته في مخطط التوريث الذي بدأت تتضح ملامحه خلال العقد الثالث من رئاسته للجمهورية.
قرر مبارك تغيير نظام تداول الحكم الجديد، ولأول مرة أجرى انتخابات لرئاسة الجمهورية، وهو ما أكد ما كان يقال خفية عن نية الرئيس توريث ابنه الحكم، والذي كان أحد أبرز أسباب قيام ثورة 25 يناير، والإطاحة بعائلة مبارك.
وقبل تنحي مبارك قام بمحاولة أخيرة عبر تعيين اللواء عمر سليمان نائبا لرئيس الجمهورية، وجاءت محاولة مبارك متأخرة في الإجابة عن سؤال “ماذا بعد رحيله؟”، لم يكن تعيين سليمان إجابة عن السؤال بقدر ما كان نفيا لإشاعة توريث الحكم لجمال، ولكن كان الأوان قد فات.
اخترعت البشرية الديمقراطية كي تحمل إجابة عن السؤال الجهنمي الذي من أجله قضى ملايين البشر نحبهم على مدار التاريخ، والديمقراطية ليست مجرد انتخابات ولكنها ضمانة لوجود عملية سياسية تفرز الكوادر وتمنح الفرص، وتكون تلك العملية مراقبة عبر جمهور المصوتين الذي يختار من بينها من يجده مناسبا ليتدرج في سلم العملية حتى يصل إلى سدة الحكم.
نقترب من مرور 12 عاما على ثورة 25 يناير، ولازلنا نفتقد وجود عملية سياسية. لا تمر مناسبة إلا ويوجه النظام أسهمه إلى جسد ثورة يناير المحتضر، دون أن ينظر أحد إلى أسباب خروج الجماهير.
حاول عبدالناصر بناء عملية سياسية عبر الاتحاد الاشتراكي ولكنها فشلت بسبب غياب المنافسة واعتماد الشكل الشمولي في الحكم، عاد السادات إلى المحاولة مرة أخرى عبر الحزب الوطني بعد أن اختار منافسيه من التيار اليساري والليبرالي، استكمل مبارك محاولة السادات عبر الحزب الوطني بعد أن فتح مساحة أوسع للمنافسة ولكنه اختار جماعة الإخوان منافسا له بدلا من الأحزاب المدنية.
فشلت كل محاولات الرؤساء السابقين في بناء عملية سياسية، بسبب رغبتهم في تأسيس عملية سياسية مقيدة، ولكنها على الأقل كانت محاولات.
نقترب من مرور 8 سنوات على حكم نظام يوليو، ولم نرى أي محاولة جادة أو حتى شكلية لبناء عملية سياسية، حتى محاولات بناء حزب يحوز الأغلبية في البرلمان، أثمرت عن كيان كل دوره السياسي هو توزيع “الكراتين”، وتقاسم كراسي البرلمان، ومع كل أزمة يمر بها المجتمع، وتحديدا أزمات التضخم وصعوبة المعيشة، توجه الأنظار الى الرئيس وحده، ويتبادر إلى الأذهان السؤال الخطير دون أن يبارح مكانه في القلب إلى اللسان.
بعيدا عن تحقيق الديمقراطية والشعارات المثالية، فإن لوجود عملية سياسية هدف براجماتي، وهو إدارة صراعات الطبقة الحاكمة من رجال الثروة والسلطة، حيث توفر السياسة ملعبا مناسبا تتم فيه المنازلات بين أصحاب المصالح وجماعات الضغط.
نعلم جميعا أن الرئيس لا يحب السياسة، وقد عبر بنفسه عن ذلك في أكثر من مناسبة، ولكن بمرور السنوات تزداد حاجة المجتمع الماسة إلى السياسة، بناء عملية سياسية تحتاج لعمل شاق وطويل، وكل يوم نتأخر فيه يبعدنا أكثر عن الطريق الأمن ويقربنا من طرق أكثر وعورة.
ربما تحمل السياسة بعض المخاطر على النظام الحالي، سوف يضطر النظام إلى قبول درجة من الانتقاد العلني لسياساته، وسوف يحتاج إلى تبرير القرارات والتشريعات التي يصدرها، وربما يتنازل عن جزء من سلطاته لآخرين، اختصارا فإن السياسة سوف تنتقص بلا ريب من الصلاحيات المطلقة التي يملكها النظام الحالي، ولكنها بلا شك أسلم الطرق للاستمرار في الحكم.