بنهاية عام 2022 يرحل واحد من أكثر الأعوام صعوبة على العالم، الذي يواجه في السنوات الأخيرة أزمات عميقة ومتعددة، في مخاض يبدو شديد الصعوبة والتعثر، يؤشر على نهايات مرحلة نظام دولي وبداية آخر جديد مختلف، لا تزال ملامحه في طور التشكل. لكن تبدو الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة والناتجة عن تداخل عدة عوامل أهمها تراكم السياسات الاقتصادية الحاكمة دوليا مصحوبة في السنوات الأخيرة بآثار وباء كورونا، التي لم يكد العالم يستعد للإفاقة منها، إلا وجاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتفاقم من عمق الأزمات الاقتصادية وآثارها الواسعة على أغلب دول العالم والمجتمعات.
ومع استمرار القلق والضبابية إزاء احتمالات استمرار هذه الأوضاع الاقتصادية وتأثيراتها الاجتماعية، فإنها في الوقت ذاته لا تبدو الأزمة الوحيدة، وإن كانت الأكثر تأثيرا في اللحظة الراهنة. بل تمتد لما هو أوسع على الأصعدة السياسية والعسكرية في إطار صراعات فرض النفوذ الدولي واكتساب المساحات والتمدد والهيمنة لكل طرف.
أما على مستوى المنطقة العربية تحديدا، فلا تزال أغلب ملفاتها المشتعلة مفتوحة، من الصراع الخليجي الإيراني على بسط النفوذ والهيمنة كل بأدواته. مع تصاعد يبدو واضحا للتوتر المكتوم والصراع ما بين الأجيال الحالية من الأسر الخليجية الحاكمة حول من يستطيع بسط نفوذه ومد هيمنته في أغلب قضايا وملفات المنطقة، ومن الوضع السوري المتشابك والمعقد بكل ما فيه من تداخلات أطراف إقليمية ودولية مع استقرار وضع النظام المستبد المهيمن الذي أجرم في حق الشعب والوطن معا.
ومثل ذلك في ليبيا التي يبحث الجميع عن تحقيق مصالحه سواء سياسيا أو اقتصاديا أو أمنيا والثمن يدفعه الشعب الليبي وحده، إلى اليمن التي لا تزال ساحة صراع لا ينتهي، إلى لبنان التي لا تزال هيمنة النخب السياسية والاقتصادية والطائفية عليها هي جوهر أزمتها مصحوبة بأوضاع اقتصادية طاحنة، إلى تونس التي تشهد عودة واضحة للاستبداد باسم الحفاظ على الدولة، إلى فلسطين التي لا تزال خلافات فصائلها وأطرافها السياسية تقسم القضية وتساهم في إضعافها وتراجعها، رغم أنها كانت ولا تزال القضية القادرة على توحيد الأمة بكل أطيافها وقواها، بدلا من التهافت المخجل من العديد من الأنظمة التي تحولت من السر إلى العلن في المجاهرة بمعصية وجريمة التطبيع الرسمى الذي كان على مدار عقود ولا يزال وسوف يستمر مستقبلا مناقضا لوعي ووجدان الشعوب مع عدو لا يزال يثبت يوما بعد الآخر أنه أكثر وحشية وعنصرية وتطرفا وقبحا.
في وسط كل ذلك، لا تزال مصر، بكل ما فيها، محط الأنظار ومكمن الرهان ومنطلق الأمل، رغم الأوضاع الاقتصادية التي تئن منها الغالبية العظمى من المواطنين بتفاوت طبقاتهم الاجتماعية. ورغم تدهور الأحوال المعيشية بشكل أصبح شبه يومي ومطرد في تزايده مع موجات غلاء الأسعار المتتالية وتراجع رهيب في قيمة العملة والقدرة الشرائية، ورغم الانسداد السياسي الواضح دون مواربة أو التباس على مدار السنوات الماضية، والانخفاض الواضح في منسوب الأمل لدى قطاعات واسعة من المصريين، والتصاعد المستمر لمساحات الإحباط العام والشكوى الجماعية العلنية مما آلت إليه الأوضاع، سواء على مستوى الحريات العامة أو على مستوى المساحات الآمنة للعمل العام أو على مستوى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
رغم كل ذلك، نقول ونكرر، أن مصر لا تزال قابلة للرهان على قدراتها، شرط أن تكون نقطة البداية هي شجاعة الاستعداد للاعتراف بالأخطاء، والقابلية للاستماع بانفتاح إلى الآراء الأخرى المختلفة في كل المجالات، وإرادة معالجة الأوضاع القائمة في إطار تصور وطنى واسع تتشارك فيه كل القوى والأطراف السياسية والمجتمعية، وعدم الاستمرار في فرض سياسات الأمر الواقع من منطق القوة في اللحظة الراهنة أو تصور أن ما يجرى هو الحل الوحيد المتاح الممكن للمشكلات والأزمات المتراكمة أو المستجدة مع تجاهل القلق المجتمعي الواسع والمتزايد من مجمل الأوضاع وما قد تؤول إليه الأمور.
لا أحد في مصر يريد، ولا أحد في مصر يحتمل، موجات انفجار اجتماعي متولدة من الاحتقان أو انسداد سبل التعبير أو انغلاق آفاق التغيير.
الطريق الآمن هو مراجعة ما هو قائم، وفتح صفحة جديدة لا تزال ممكنة لو بدت الإرادة جادة وحقيقية، نحو تغييرات واسعة ولو تدريجية، تبدأ من الإصلاح السياسي وفتح قنوات العمل السياسي بكل معانيه ومكوناته لا من حيث الشكل وإنما من حيث المضمون، وقبول النقد والاختلاف مهما بدت حدته باعتباره أمرا صحيا وإيجابىا ودليل حيوية وتنوع، وإذا كانت الحلول الاقتصادية فى بعض جوانبها صعبة ومكلفة وتحتاج وقت وجهد وموارد، فإن الحلول السياسية ممكنة وقابلة للتحقق وبكلفة أقل بل وربما بنتائج أسرع، وتفتح الباب واسعا أمام طرح حلول وأفكار ومقترحات فى مجالات وقطاعات أخرى.
لا سبيل أمام مصر سوى الانفتاح السياسي، ولا رهان لديها إلا على تجديد الأمل فى تحسن الأوضاع، ولا يمكن هذا ولا ذاك إلا بمراجعة ما هو قائم والقابلية لإصلاحه وتغييره.
تحتاج مصر مع بداية عام جديد، قد يكون أكثر صعوبة، لإجراءات واضحة وسريعة وحاسمة فى عدة ملفات، على رأسها تقدم العقل السياسي وتراجع العقل الأمني، والانتهاء في مدى زمني قصير ومحدد وبآليات ومعايير واضحة من ملف سجناء الرأي، ومنها التقدم بشكل واسع في ملف الحريات العامة وحقوق الإنسان بشكل عام بمختلف جوانبها بما يشمله ذلك من تعديلات تشريعية لازمة وواجبة.
وقد يكون تفعيل أجزاء أساسية من استراتيجية حقوق الإنسان باعتبارها مطروحة بالأساس من الدولة نقطة بداية لا منتهى الطموح، ووقف الإجراءات والتشريعات والسياسات محل الخلاف العميق، وعدم الانفراد بالرأي فى أي قضايا مهمة وحساسة ومؤثرة على المستقبل، والمصارحة والمكاشفة لا فيما يتعلق بالأزمات التي نواجهها فحسب، بل كذلك فيما هو مطروح من تصورات للحلول وما وراءها والقبول بنقدها والاختلاف معها وطرح بدائل عنها.
ومع هذا كله وقبله وبعده يحتاج المصريون ليروا سياسات جديدة ويشعروا بنتائج لما تحملوه وعانوه على مدار السنوات الماضية لا بمجرد تصريحات أو قرارات محدودة الأثر تذهب فورا مع أول موجة غلاء أو قرارات اقتصادية جديدة، وإنما بإجراءات وخطوات وسياسات تخفف عنهم آثار الأوضاع الاقتصادية وتحد من موجات الغلاء المتتالية.
تحتاج مصر لتجديد دماء نخبها ومعارضتها، في الخطاب والأفكار والأدوات والآليات، وفي استعادة حيوية المجتمع كطرف رئيسي في أي معادلة، عبر أدوار النقابات المهنية والعمالية، والمنظمات الأهلية والمدنية، ووسائل الصحافة والإعلام، وهو كله وغيره مما لا يمكن إلا بفتح المجال العام وإطلاق المساحة للحريات العامة بشكل حقيقي لا شكلي وبشكل شامل لا جزئي.
مصر والمصريون، كما المنطقة والعالم كله، على أبواب عام سيحدد كثيرا من ملامح ما هو مقبل، إما بالتقدم خطوات واسعة فى طريق آمن للجميع بمعالجة الأخطاء والانفتاح على الآراء والرهان على قدرتنا على مواجهة الأزمات والتحديات بالعقل الجماعي لا الفردي وبالوعي المشترك لا المفروض من طرف على آخر. وبالتالي، البحث عن مساحات التوافق الممكنة والتركيز على ما هو محل اتفاق، وإما الاستمرار فيما هو قائم والذي سوف يزيد من تراكم الأزمات ويعمق الخلاف والجراح والاحتقان، وهو مسار خطأ وخطر تصور إمكانية الاستمرار فيه.
باختصار، مع عام جديد يبدأ رغم كل تحدياته ومصاعبه، تحتاج مصر إلى الأمل.