بينما كان الغرب منشغلاً ببسط نفوذه بقوة السلاح في القارة الأفريقية، كانت الصين قد اخترقت كل شيء اختارت قريبًا ناعما للتمدد في أفريقيا. وذلك بفضل استثمارات مليارية وقروض ومنح ومشروعات بنيوبة استطاعت خلالها أن تحكم قبضتها على اقتصادات تلك الدول ومواردها الطبيعية.
وكالة “وكالة ماكنزي” الأمريكية توقعت أن تجني الصين أرباحًا مالية من أفريقيا بقيمة 440 مليار دولار بحلول عام 2025. بعدما ارتفع حجم التجارة بين بكين والقارة السمراء العام الجاري إلى 139 مليار دولار بزيادة 40.5% خلال سبعة أشهر فقط. كما شهد الاستثمار الصيني بأفريقيا توسعًا كبيرًا ليبلغ 2.9 مليار دولار بزيادة 9.5%، رغم تراجع الاقتصاد العالمي بسبب جائحة كورونا. لتحافظ بكين على موقعها كأهم شريك تجاري لأفريقيا على امتداد 12 عامًا.
أرقام هائلة ومؤشرات- قطعًا- مقلقة لمنافسي بكين في القارة السمراء، بعدما بات واضحًا أنها أحكمت سيطرتها “الناعمة” هناك. يبدو أنها تعمل بالمثل الشهير “اصطياد عصفورين بحجر واحد”. الأول، يتمثل في تنشيط اقتصادها وتوسعه، والثاني وضع قدم في منطقة تنافس دولي.
هذا التمدد الصيني، لفت انتباه الجميع، وجعل القمة الاقتصادية المرتقبة محط تساؤل: إلى أين تذهب الصين في القارة الأفريقية؟. وهذا تحديدًا ما رصدته دراسة جديدة قدمها المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية. والتي ناقشت النتائج المحتملة للمنتدى الذي يعقد هذا العام في داكار-السنغال، في دورته السابعة (تعقد كل 3 سنوات).
خلل واستغلال.. كفة الميزان التجاري لصالح الصين
وتواجه القمة تحديًا كبيرًا لإصلاح الهيكل التجاري بين الصين وأفريقيا، حيث يبلغ العجز أكثر من 20 مليار دولار لصالح الصين. مع غياب السلع المصنعة الأفريقية من الأسواق الصينية والتي تغرق منتجاتها الأسواق الأفريقية مقابل السيطرة على المواد الخام الأرخص ثمنًا. كما أصبحت أفريقيا تعتمد بشكل شبه كامل على الشركات والمقرضين الصينيين لتمويل وبناء البنية التحتية اللازمة للتصدير.
تكشف الدراسة أن النخب الأفريقية تسخر المنح الصينية لبناء شبكات مصالحها وتدعيم نفوذها السياسي وتعظيم ثرواتها. وتفتقر إلى الشفافية اللازمة للحفاظ علي مصالح مواطنيها. وتعصف بمعايير سقف الديون الآمنة للبلدان والمعايير البيئية وقوانين العمل. كما تفتقر إلى الرقابة ولا تساهم في نقل المعرفة، مما يحفظ وضع الدول الأفريقية الضعيف في المنتدى أمام الصين.
في خضم هذا التباين، كان للمتجتمع المدني دور في تحجيم أنشطة الصين غير العادلة. من خلال التدقيق في شروط الاتفاقيات مع الصين، بل والاحتجاجات الشعبية والتقاضي الذي يستهدف المشاريع الصينية. ونجحت إحدى المنظمات الأهلية الكينية في وقف مشروع للسكك الحديدية بحكم من محكمة الاستئناف نص علي أن عقد SGR غير قانوني. وذلك لعدم التفاوض عليه من خلال عملية “عادلة وشفافة ومنصفة وتنافسية وفعالة من حيث التكلفة”.
“المنتدى المغري”.. عندما تهزم الصين الأمم المتحدة في أفريقيا
يفضل الكثير من القادة الأفارقة حضور منتدى التعاون الصيني- الأفريقي على حضور الجمعية العامة للأمم المتحدة (أكبر قمة في العالم). في آخر انعقاد للمنتدى عام 2018، حضر 51 رئيسًا أفريقيًا قمة FOCAC مقارنة بـ 27 فقط في الجمعية العامة بعد أسبوعين.
من أهم عوامل الجذب الرئيسية لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي هو تركيزه على إقامة شراكات وثيقة يتم التفاوض على أجندتها. وذلك على مستوى كبار المسؤولين والمستويات الوزارية. ويتم العمل من خلال 12 منتدى فرعي تشمل “الدفاع والأمن” والتعاون الصحي” و “تعاون الحكومات المحلية” و “المؤسسات الثقافية”.
التدريب والتأهيل.. خطة صناعة الموالين
تخلق الصين لنفسها وجودًا ميدانيا، حيث تقدم الصين حوالي 50 ألف فرصة تدريب لأعضاء الاتحاد الأفريقي. تركز على الموظفين العموميين في مواقع المسئولية والكوادر الحزبية كل ثلاث سنوات. كما تخصص 60 ألف منحة إضافية لتعليم الطلاب المدنيين والعسكريين. بما في ذلك عدة آلاف على مستوى القيادة. وحتى عام 2020 كانت الصين تقدم تدريبًا للأفارقة أكثر من أي دولة أخرى، بعدما تجاوزت الهند وألمانيا واليابان والولايات المتحدة.
كما نما الوجود الثقافي للصين، ففي عام 2000 لم يكن للصين معاهد ثقافية في إفريقيا. حاليًا تمتلك الصين ثاني أكبر عدد من المعاهد الثقافية في إفريقيا بعد فرنسا. بعد أن تفوقت على المجلس البريطاني، ومعهد جوته الألماني، والمراكز الأمريكية التابعة لوزارة الخارجية. والتي تعمل في أفريقيا منذ 1883 و1934 و1960 على التوالي. كما تضخم عدد الطلاب الأفارقة الذين يدرسون في الصين إلى 60 ألف طالب، مما يجعل الصين الوجهة الأولى للطلاب الناطقين باللغة الإنجليزية.
الصين أكبر لاعب منفرد في البنية التحتية الأفريقية
في عام 2000، كان رصيد الاستثمار الصيني في أفريقيا 2% فقط من المستويات الأمريكية، مع وجود أقل من 200 شركة صينية على الأرض. ارتفع هذا إلى أكثر من 55% من المستويات الأمريكية بحلول عام 2020. وتوسع عدد الشركات الصينية إلى أكثر من 10 آلاف شركة، منها حوالي 10% مملوكة للدولة، في مجال البناء وحده. حققت الشركات الحكومية في الصين أكثر من 40 مليار دولار من العائدات سنويًا منذ عام 2012 في أفريقيا.
هكذا باتت الصين أكبر لاعب منفرد في البنية التحتية الأفريقية. تهيمن البنية التحتية للنقل والطاقة على الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني (FDI)، إلى جانب المرافق والتكنولوجيا والعقارات. يذهب 65% من الإقراض الصيني إلى نفس هذه القطاعات. مما يجعل من الصعب الفصل بدقة بين القروض والاستثمارات.
بين عامي 2000 و2020، تضمنت المحفظة الصينية 46 مشروعًا للموانئ في أفريقيا جنوب الصحراء. كما أن ثلث شبكة الطاقة والبنية التحتية للطاقة في أفريقيا، و186 مبنى حكوميًا، و14 شبكة اتصالات سلكية ولاسلكية داخلية. ومن غير الواضح كم من هذا الاستثمار الأجنبي المباشر ومقدار التمويل بالديون. ومع ذلك، خلال الفترة نفسها، وقعت البلدان الأفريقية 274 قرضًا بقيمة 46.6 مليار دولار للبنية التحتية للنقل. و 174 قرضًا لمشاريع الطاقة بقيمة 38 مليار دولار. و141 قرضًا لأغراض الاتصالات والأمن القومي بقيمة 15.3 مليار دولار.
ترى الدراسة أن الأفارقة يشعرون بالقلق من أن هذا الاقتراض، الذي يخضع غالبًا لبنود السرية التي تمنع المقترضين من الكشف عن شروطهم. باختصار، أنتج التعاون في العقدين الماضيين هيمنة للنخب الحاكمة على الاتفاقيات السرية التي تحتوي في كثير من الأحيان علي شروط غير عادلة، مما يعزز الطبيعة غير المتكافئة للعلاقة ويزيد من التبعية الأفريقية.
كما تؤكد الدراسة “في كثير من الأحيان، تسخر النخب الأفريقية الهبات الصينية لبناء شبكات المحسوبية، وتقوية مواقفها السياسية، وتحقيق أقصى قدر من الإثراء الذاتي”.
أعباء الديون الصينية على أفريقيا
سيكون الإعفاء من الديون عملية صعبة، يمتلك المقرضون الصينيون ما يقرب من 21% من الديون الأفريقية بقيمة 152 مليار دولار إلى 49 دولة بين عامي 2000 و2018. وتخشى الصين من وضع سابقة للإعفاء الشامل ومن المرجح أن تتمسك بإعادة هيكلة الديون وتأجيل السداد.
تعيد 18 دولة أفريقية على الأقل التفاوض بشأن ديونها مع حوالي 30 مقرضًا صينيًا مختلفًا. وتحاول 12 دولة أفريقية أخرى إعادة جدولة قروض بقيمة 12 مليار دولار، الدول التي لديها أكبر ديون صينية هي أنغولا (25 مليار دولار)، إثيوبيا (13.5 مليار دولار)، كينيا (7.9 مليار دولار)، زامبيا (7.4 مليار دولار)، جمهورية الكونغو (7.3 مليار دولار)، السودان (6.4 مليار دولار).
من غير الواضح ما إذا كانت بعض الديون المعاد هيكلتها ستتضمن تمويلًا للموارد مقابل البنية التحتية (RFI) أو مقايضات الديون وحقوق الملكية لمرافق حيوية، في كلا السيناريوهين، يخاطر المقترضون بمصادرة الأصول الاستراتيجية، مما يعرض سيادتهم بشكل فعال للخطر.
الاستراتيجية الأمنية وصفقات السلاح الصيني في أفريقيا
ستكون المفاوضات حول التعاون الأمني والعسكري أكثر وضوحًا. تريد الصين توسيع استراتيجيتها الأمنية “منخفضة التكلفة ومنخفضة المخاطر وذات العائد المرتفع” في أفريقيا نظرًا لمصالحها المتزايدة والأبعاد الأمنية للحزام والطريق.
وفي هذه العملية، تزيد الصين بثبات من وجودها الأمني (ونفوذها) وتحرص على تعزيز مشاركتها في حفظ السلام. والتعليم العسكري والمهنية، ومبيعات السلاح والتمارين العسكرية.
علاوة على ذلك، فإن الصندوق الصيني الأفريقي للسلام والأمن، وهو مرفق خاص تم إنشاؤه في عام 2015 لتفعيل القوة الأفريقية الجاهزة للتدخل السريع، مطروح للنقاش ومن المرجح أن يمتد حتى عام 2024.