يظن الكثيرون أن الوقت أفضل علاج لآثار الصدمات والانكسارات وخيبات الأمل وفقد الأحبة. بينما الحقيقة أن الوقت لا يساعد ولا شيء يتبخر مع مرورالوقت. ربما يستطيع الكثيرون تفادي التفكير فيما حدث وتذكر هذه الأوقات. ولكن آثارها تظل موجودة وتتراكم بجانيها الكثير من الأمور السلبية الأخرى ما يؤدي للإحساس بالفشل أو نوبات التوتر أو أن يصبح الشخص متبلد المشاعر لا يتأثر حين يعرف بخبر رحيل صديق أو موت جار، كل هذه التغيرات في الشخصية بشكل سلبي هي نتيجة أننا نُكابر في الاعتراف بحاجتنا للمساعدة الطبية النفسية تحديدا في الكثير من الأزمات، ونعتمد على مهاراتنا في الدفاع النفسي كالإنكار أو الإزاحة أو التكيف، ونعتمد على أن الوقت كفيل بمداواتنا، ولكن يجب أن لا نترفع عن طلب المساعدة والاعتراف بضعفنا.. فلا بأس بذلك.
اليوم العالمي للصحة النفسية
اليوم يوافق الاحتفال باليوم العالمي للصحة النفسية. ويشير بيان حملة منظة الصحة العالمية إلى أنه: “كان لجائحة كوفيد-19 أثر فادح على الصحة النفسية للناس. وقد تضررت بعض الفئات من ذلك بشكل خاص، بما يشمل العاملين في الرعاية الصحية وفي الخطوط الأمامية، والطلاب والأشخاص الذين يعيشون بمفردهم وأولئك المصابين بحالات صحية نفسية أصلاً. وفي الوقت ذاته تعطلت بشدة خدمات الصحة النفسية والعصبية وخدمات اضطرابات تعاطي مواد الإدمان.”
من الملاحظ أن البيان أكد على أن أكثر الأشخاص الذين تأثروا نفسيا. هم العاملون في مجال الرعاية الصحية والمصابين بالأمراض النفسية من الأساس وكذلك الطلاب. أي الأطفال والمراهقين.
الكثير من الآباء والأمهات يعرفون التربية على أنها دفع مصاريف المدرسة وشراء الملابس وتوفير الطعام والدروس الخصوصية للأبناء في السنوات الدراسية الصعبة، لا يعتقد الكثير من الآباء والأمهات في أن التربية هي حوار وتوجيه ودعم وفن: متى أكون صديقا لابني ومتى أكون حازما معه.
في جيلي كانت التربية مقتصرة على ذلك فقط: توفير مصاريف المدرسة والطعام والدروس الخصوصية. وحين يتحدث فيها أحد الوالدين يكون الكلام عبارة عن مُعايرة أو تهديد أو لوم هذا بخلاف الضرب والعنف الجسدي. وكان هذا هو المتبع والطبيعي ولا نشتكي منه بين بعضنا البعض، كنا نحن أيضا نظن أن هذه هي التربية وأن هذا هو دورهم وفقط، حين كبرنا وصرنا آباء وأمهات وقرأنا وعرفنا أن ولاية أمر طفل ليست فقط مادية وإنما أيضا بناء شخصية وتفهمنا أن الجانب المعنوي والنفسي مهم وركن أساسي في دعمهم وإعدادهم للمستقبل وصعوبات الحياة.
ظل البعض يعتقد أن التعنيف المعنوي والجسدي هو التربية، وأن الأطفال ينسون سريعا أي مشكلة ويتجاوزون أي ذكرى أليمة، ولكن الحقيقة أن كل فعل يصدر من الوالدين يترسب داخل الطفل، حتى ولو كان هينا، ولو كان بغرض الحب أو التعليم أو “أنا خايف على مصلحته”، ويتصرفون مع أبنائهم مثل هولاء:
المقارنة:
يشير كثير من الآباء والأمهات إلى نجاح أطفال آخرين في حديثهم مع أبنائهم. معتقدا بذلك أنه يحفزه ويدفعه ليتشبه بهذا الطفل الآخر الناجح في مجال الرياضة مثلا أو التعليم. ولكن ما يحدث هو أن الطفل أو المراهق يجد أن أباه يراه أقل من هذا الطفل الآخر. ويرى نفسه عاجزا عن إرضاء أبيه ومجاراة أحلامه به. والسبب بسيط وهو أن كل طفل يختلف عن الآخر. لنقرأ عن الفروق الفردية وأننا جميعا إجمالا متساوون، ولكن هناك البارع في الرياضة وآخر بارع في الفنون وآخر يتميز بقدراته اليدوية الحرفية. فلا يجب الدفع بالابن في اتجاه واحد محدد حسب أحلامي أنا كأم. وليس حسب مهاراته التي لا يزال يكتشفها وربما يحتاج لسنوات ليعرف فيم هو بارع. وسط كل هذه اللخبطة أقارنه بطفل آخر ما يشكل ضغط عليه ويفقده الثقة في نفسه. وتقطع سُبل التواصل مع الأب فيما بعد، فلماذا ساتحدث مع أبي الذي لا يراني جديرا بثقته.
أي مشكلة نفسية حلها الكلام مع الطفل:
قليل منا كآباء وأمهات يعترف بوجود مشكلة نفسية يُعاني منها أحد الأبناء. ولو حدث واعترف بوجود مشكلة تحتاج للمساعدة فسيكون حلها هو الحوار مع الطفل أو المراهق، والاكتفاء بالحوار فقط وأن المشكلة تحتاج لهذا فقط، بالطبع الحوار مهم. ولكن اللجوء لطبيب نفسي والالتزام بالبرامج القائمة على العلاج المعرفي السلوكي. الذي يركز على تغيير الأفكار والمشاعر والسلوكيات التي تسبب مشكلات خطيرة. فالأبحاث تقول إن العلاج أكثر نجاحًا في السنوات القليلة الأولى التي تظهر خلالها أعراض الاضطراب النفسي.. نظرًا لأن معظم الاضطرابات النفسية تظهر قبل سن الـ 14، وحين يُصبح الطفل في مرحلة المراهقة يصعب التعامل مع هذه الاضطرابات. ما يفسر الكثير من سلوكيات المراهقين المضطربة من عدوانية وتمرد وأخرى.
20 % من الأطفال والمراهقين في العالم يعانون من اضطرابات ومشكلات نفسية. فالصحة النفسية السيئة ترتبط بالتغيير الاجتماعي السريع، وظروف التحصيل العلمي، والتمييز بين الجنسين، والاستبعاد الاجتماعي، وأسلوب الحياة غير الصحي، والعنف، وانتهاكات الحقوق.
لقد صنعنا لك الكثير:
كنوع من أنواع التحفيز التي يلجأ لها الوالدان. هو أن يخبروا أبناءهم بما فعلوه لأجلهم، ماديا أو معنويا. هذا ليس تحفيزا وإنما هو “مُعايرة”، نعم.. فليس هناك داع لتخبر ابنك “كل شوية” أنك تتعب في العمل حتى تدفع له مصاريف المدرسة، ليس هناك داع أن تخبري ابنتك أنك تتحملين العيش مع أبيها من أجلها، فهذا ليس فضل من الأم ولا الأب وانما هو دورهم حين اختاروا أن ينجبوا هؤلاء الأطفال، هذا حقهم وليس تكرما منكم -ولا مني على ابنتي- فلا يجب أن أشير إليه ولا أجعله دافعا لأن يجتهد في المدرسة من أجلي ومن أجل ما ضحيت به. ليس هذا ذنبه ولا هذا تحفيزا. بل هي معاناة أخرى وعبء أضيفه على طفلي الصغير. وضغط يزيد احساسه بالعجز والذنب ودائرة لا تنتهي من المعاناة والتقصير بسبب كلمة تُقال هي ببساطة معايرة واضحة وكأن تحمل مسئولية أبنائك هو تكرم منك تستحق عليه الشكر.
أنت مجرد خطأ:
تخبر الكثير من الأمهات ابنها أنها لم تكن تخطط أن تنجبه وأنه “جه غلط” بل والأسوأ أن تقول له إنها حاولت إجهاضه وفشلت، لا أعرف ما الهدف من إخبار ابني بأنه خطأ؟ هل في ذلك طُرفة ما؟ حدوتة لطيفة نتحاكى بها في الجلسات الأسرية؟ كل ما يترسب بداخل الطفل هو أنه لم يكن مخططا لوجوده وأنه غير مرغوب فيه.. وأنه عبء وزيادة عن بقية إخوته.. وأنه أقل درجة منهم في الحب.. نعم لا تقصد الأم أن تقول هذا تحديدا وإنما تريد أن تشاكسه أو تروى قصة طريفة، ولكن ما يترسب هو ذلك: أنا غير مرحب بي في هذه الأسرة.
سأخبرك بكل المصائب.. تعال بجواري:
من الأخطاء التي نقع فيها، ووقعت فيها أنا شخصيا. أن نخبر أبناءنا بمشكالنا. أن نحكي معهم أو نشاركهم أفكارنا وخططنا لحلول هذه المشاكل. أو أن نتركهم يشاهدون هذه المشكلات بأنفسهم خاصة المشاكل بين الأب والأم والتعنيف وأحيانا الضرب والإهانة. فهو في النهاية طفل لن يُفيدك برأي أو مساعدة. بل أنت بهذه الطريقة تُثقله بمشاكل وتُصعب عليه الحياة في حين أنه طفل. يجب ألا يفعل شيئا سوى اللعب والابتكار والقليل من التعليم. هذا يشكل بداخله نظرة قاتمة عن العالم ويجعله شخصا سلبيا ربما أو عدميا أو حتى مكتئبا أو متشائما.. فلا تجعل نيتك بأن تتخذه صديقا أن تُفسد عالمه الرائق وتُعكر خلو باله، صادقه في اهتماماته هو، وفكر معه في مشاكله هو وتحدث معه عن احتياجاته وأنشطته واسأله عن أحلامه ليلة أمس.
في النهاية فكثير منا ليسوا مؤهلين لدور الأمومة والأبوة. وحتى نعرف ذلك في فترات الخطوبة وأول سنوات الزواج يجب أن نلجأ للمساعدة والبحث عن التأهيل النفسي والتعرف على قدراتي، وأسأل نفسي: هل أستطيع أن أكون أما جيدة أو أبا داعما؟
أرى أيضا أن الحل الوحيد هو اشتراط توقيع كشف طبي نفسي على المقبلين على الزواج. يقيس مدى قوة الطرفين العقلية والنفسية، الأبوة والأمومة ليست فقط حيوانات منوية ورحم مستعد وحمل لتسعة أشهر ومصروفات البامبرز والمدرسة والطعام واللبن، هي مسئولية وقوة تحمل وتأهيل يجب أن تتأكد الدولة من صلاحية الطرفين ليكونا أبا وأما جيدين لأبنائهم وإلا لن تنتهي هذه الدائرة من الأطفال والشباب المشوه نفسيا المفتقر للحب والحتواء والحرية.