أحاول في هذه المقالات الاقتراب من بعض آيات القرآن الكريم التي توجه إلى عموم الناس، على اختلاف دينهم أو مذهبهم، وعلى اختلاف أزمنتهم وثقافتهم.. إنها آيات محكمات ذات كثافة تشكيلية، وجمالية لافتة، ولذا فهي تتسع لمستويات التفسير والتأويل، وتستوعب أسئلة المعاصرين بقدر ما استوعبت -من قبل- أسئلة القدماء وانشغالاتهم.
فما أقوم به هنا هو محاولة للفهم، وكل فهم -كما تعلم- فعل إنسانيّ وتاريخيّ، وهذا يعني أنه ذاتي وقابل للتجاوز. كل فهم هو محاولة منا للتفاعل مع الموضوع، بحيث يغدو الموضوع موضوعنا، يحمل بصمات أيدينا وخلجات أرواحنا ودقائق عقولنا.. ولتكن البداية مع هذه الآية الكريمة التي وشّحت سورة النور ومنحتها اسمها وَسَمْتها ومفتاح تأويلها، يقول ربنا:
{الله نور السموات والأرض مثل نوره كَمشْكاةٍ..} (النور:35)
في هذه الآية قدر عظيم من التَّلطّف الإلهي على عباده على امتداد الزمان، ولكنه -أي التَّلطّف- أظهر وأجلّ بالنسبة إلى هؤلاء الذين تلقوا الكتاب أوّل مرّة؛ فقد كانوا بالأمس القريب يعبدون آلهة متعددة، ومجسَّدة أمام أعينهم، ولكنهم اليوم مطالبون بالتخلي عن هذا التصور، والاعتقاد الذي ورثوه وألفوه. إنهم مطالبون بالتوحيد والتجريد والتنزيه.. وهذا كله يحتاج إلى قدر من التّلطّف بالعقول، والقلوب لتمرّ هذه النَّقْلة بسلام. وهذا ما تقوم به هذه الآية الكريمة التي يُعرّفنا فيها ربنا بذاته، وليس أوضح من تقنية “التعريف” لإنجاز التّقرب والتلطف، وإقامة جسور الوصل بين المتخاطبين، والتعريف -كما تعلم- تمييز وتحديد وإفراد.
والتعريف -فيما يرى دارسو الخطاب الحِجَاجيّ- حُجّة شبه منطقية، بمعنى أن قوتها الإقناعية تأتي من مشابهتها للطريقة المنطقية، والرياضية في البرهنة، ولكنها في جوهرها تختلف عن البرهنة في كونها غير ملزمة، وعدم الإلزام سبب ثرائها، وقدرتها على تحفيز المتلقين.. لا يتم التواصل بين الناس بدون التعريف، فهو ماثل في كل تواصل، قد تجده مباشرًا ومصرحًا به، وقد تجده مضمرًا -(لوجوده الاعتباري)- مسكوتًا عنه إذا تواضع المتخاطبين عليه؛ فلا يتحدث اثنان دون أن يعرف كلُّ مُتحدِّث إلى من يتحدث، وذلك وفق مقتضيات الحديث وموضوعه، ووسيطه الذي يتم من خلاله، وانسجامًا مع غايته التي يسعى إلى إنجازها؛ يقع ذلك في كل خطاب بداية من العلوم والمعارف التي لا تستقيم دون أن نعرف موضوع هذا العلم أو ذاك، ودون أن نعرف منهجه وغاياته.. وليس انتهاء بخطاباتنا اليومية التي تشمل أكبر الأمور وأبسطها، من السياسة والتجارة وحتى إلقاء التحيات فيما بيننا.
فإذا كنا -مثلًا- بصدد زيارة إلى أحد الأطباء، فنحن في حاجة إلى معرفة من هو؟ وما تخصصه الدقيق؟ وقد لا نكتفي بذلك فنطلب تعريفًا أوسع، كأن نتساءل: في أي جامعة تخرج؟ وما الخبرات التي حصل عليها؟.. وقل مثل ذلك في كل أمر أو في كل خطاب. التعريف إذن ضرورة تخاطبية، وبدونه يغدو الكلام ملتبسًا في موضوعه وفي غاياته ومقاصده.
{الله نور السموات والأرض}
نحن هنا لسنا إزاء تعريف “جامع مانع” على طريقة المناطقة قديمًا، وإنما نحن إزاء تعريف عام، ولغة رمزية ذات كثافة جمالية ودلالية.. أو لنقل: نحن إزاء نور كامل شامل، يمتد في كل جزء من الكون المنظور أمامك، في السماوات وفي الأرض.. فما طبيعة هذا النور؟
يعرف الدارسون أن كل تعميم يُقصد به الشُّمول والعموم، وهذا حق لا شكّ فيه، ولكن الشُّمول هنا لا ينتهي إلى حالة من السّيولة تقوّض جوهر التعريف ووظيفته، الشمول هنا لا يساوي بين الله والنور، ولكنه يقول لك: إنه – سبحانه- مصدر هذا النور الذي تجده في كل شيء. فكل نور تراه أو تشعر به يجب أن ترده إليه سبحانه.. وهذا العموم الذي تؤسِّس له الآية يفتح قوس التلقي إلى المدى الأقصى ليغدو النور ممتدًّا متنوعًا في كل فهم وفي كل عقل.. أضف إلى ذلك أن الشمول- بحد ذاته- يسمح باستقطار كل دلالات العبارة، أو قُلْ: إنه يُحرِّض القارئ إلى ذلك.
فإذا كان النور معطى فيزيقيًّا على نحو ما تجد في ضوء النهار وتلألُؤ نجوم السماء، فإن النور أيضًا ذو دلالة معنوية راسخة؛ فـ”الله” يخرج الذين آمنوا من ظلمات الضلال إلى نور الحقيقة، ومن تخبط الشّك إلى بَرْد اليقين، وهذا ما تجده جليًّا في عديد من آيات الذكر الحكيم، ومن ذلك قوله تعالى:
{وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا}. (النساء:174)
ومثله:
{ويجعل لكم نورًا تمشون به}.. (الحديد:28)
في النور تتكشف الأشياء وترتدي ثوب هويتها الذي تُعرف به. فأنت موجود بقدر ما تتعرض للنور، وغير موجود بقدر ما تبتلعك الظلمة.. النور كاشف وهادٍ، إنه يغمر العالم فتمتاز الأشياء عن بعضها، ينقذنا النور من العَتْمة، عتمة الخارج مهلكة وعتمة الداخل مهلكة أيضًا.. بالنور نحيا، وبه نكون، وبه نمضي آمنين مطمئنين.
وهكذا نغدو إزاء تعريف رحب الدلالة، لا يقدم لك المعرّف بطريقة حصرية حدية، فالنور تعريف للذات الإلهية، ولكنه لا يساويها، إنه منها فحسب، هو أحد تجليات قدرتها.. فالتعريف هنا لا يقدم لك مادة مصمتة ،يمكنك أن تحفظها، ثم تُردِّدها، وإنما يأخذ بيدك إلى هذا المدار الإلهي الشاهق في تعدُّده وتنوعه إلى أقصى حد. التعريف هنا يدعوك إلى التّأمّل، وكلّ تأمّل فعل إنسانيّ، وكل متأمل لا ينال من موضوعه إلا بقدر ما يبذل فيه من جهد. التأمل- بحد ذاته- فعل حيويّ نامٍ، ومع حركة التأمل يزداد موضوع التعريف ويربو، وهكذا، الإله القوي الخبير.. إنه مطلق لا حدّ لقدرته، ولا مجال لحصره حتى لو كان ذلك عبر لغة عظيمة الكثافة.. وهذا بالضبط ما يقوم به هذا التعريف.
القرآن خطاب حيّ
القرآن الكريم شبكة هائلة من الحوارات المختلفة؛ ففيه أصوات المؤمنين والكافرين، وأهل الكتاب، وفيه إلى جوار ذلك أصوات الجنّ والملائكة وآحاد الناس وغير ذلك من المخلوقات كالهدهد والنمل..إلخ. وهذه الحقيقة البنيوية أساسية في فهم القرآن، ويترتب عليها نتائج كثيرة، منها مثلًا طبيعته الإقناعية والحجاجية، وهي طبيعة تنفي الإرغام، ويتأكد بها الحضور الإنساني في مختلف أحواله: في شَكّه وفي إيمانه، وفي استكباره وخضوعه، وفي إقدامه وإحجامه..إلخ، بحيث نغدو في النهاية إزاء خطاب حيّ بقدر ما فيه من تنوع وأطروحات حجاجية تُميّز كل صوت عن غيره من الأصوات.
ولعلكَ لستَ في حاجة إلى من يُذكِّرك بهذه الآيات، التي هي جواب مباشر عن سؤال صريح، يفصح عنه القرآن في صيغة محددة مثل: {ويسألونك عن ..}، وهي صيغة شديدة الدلالة على حيويّة التفاعل بين الخطاب والمتلقين له.. ولا يقتصر الأمر بالتأكيد على مثل هذه الصيغ المباشرة؛ فقد يُضمر القرآن التساؤل، فلا يذكره مباشرة ولكن مقتضى السياق يدلّنا عليه، على نحو ما نجد في الآية موضوع الكلام هنا.. فالتعريف بحد ذاته – غالبًا- ما يكون جوابًا عن سؤال – معلن أو مضمر- في عقول المتلقين ونفوسهم، فكأنّهم يتساءلون: من ربنا؟ أو كأن أحدهم سأل النبي (ص): صفْ لنا ربّك؟ ومن ثم كان الجواب:
{الله نور السموات والأرض..}
يقول البلاغيون إننا هنا إزاء التشبيه البليغ- (المعروف أن التشبيه التام يتكون أربعة عناصر هي: المشبه والمشبه به وأداة التشبيه ووجه الشبه)- حيث يحذف الطرفان (أداة التشبيه ووجه الشبه) ويبقى المشبه في مواجهة المشبه به، أو بتعبير أدق يبقى المشبه متداخلًا بالمشبه به. والحقيقة أن التشبيه لا يمكن فهمه بعيدًا عن منطق التشابه؛ فالتشبيه لا يشرح أو يوضّح فحسب، وإنما يقيم علاقات جديدة بين أطرافه، إنه بالأساس يُنْتج مزجًا جديدًا مركبًا من عمق اللقاء بين الطرفين: المشبه والمشبه به.. التشبيه يفعل ذلك دائمًا ولكنه يفعله مع التشبيه البليغ بشكل أكبر، فنحن معه إزاء طرفين يتمايزان في الواقع أو في التصور، ولكنهما داخل بنية التشبيه يقتربان إلى أقصى حد، وهذا المزج الجماليّ مقصود، فالتشبيه تعبير عن حقيقة إدراكية لم تكن من قبل، وحين نقف إزاء التشبيه البليغ موضوع الكلام هنا:
{الله نور}
نجده لا يقدم لنا حقيقة مادية جديدة، وإنما يقدم حقيقة إدراكية يمكن للمتلقين التفاعل معها وتنيمتها حتى لكأنها حقيقتهم التي اجتهدوا في الوصول إليها؛ إذ يشاهدون النور يسري في كل شيء، يشاهدونه في أدق الموجودات وفي أعظمها، استنادًا إلى شمول النور لكلّ ما في السماوات وما في الأرض. فالنور في كل مكان يتوجه إليه بصرُك، بقدر ما هو في كل فكرة يهتدي إليها عقلك وتستريح إليها نفسك..النور هنا يرادف الوجود الشامل، ومنه ينبثق الوجود نفسه.
نتابع تبديات هذا التشبيه وذلك التعريف المنفتح في المقالة القادمة.