إن العلاقة بين الدولة والعنف الجماعي متجذرة بعمق في التاريخ الحديث، وتتميز بالقدرة الفريدة للدولة على تنظيم وتبرير وإدامة القتل على نطاق واسع. فمنذ بداية القرن الواحد والعشرين وطوال القرن العشرين، أدت عمليات القتل الجماعي- التي تُعرف بأنها حملات منسقة واسعة النطاق من العنف المميت، تستهدف المدنيين بشكل منهجي- إلى مقتل الملايين. إن هذه الفظائع، التي تتراوح بين الإبادة الجماعية والقتل السياسي إلى القصف الجوي والقمع الحكومي، تُرتكب في الغالب من قبل الدول، والتي من خلال الهياكل التنظيمية المعقدة والإطار الأيديولوجي للتهديدات، وتطور تكنولوجيات السلاح… تُحوّل الصراعات الداخلية والحروب الخارجية إلى مبررات للتدمير الشامل.
ستشرح هذه المقالة آلية إنتاج الدولة للعنف الجماعي، مُفصّلةً التفاعل الحاسم بين ديناميكيات الدولة وسيكولوجية الأفراد في تمكين الإبادة الجماعية. ثم تُحلل كيف استغلت الأنظمة الشمولية تاريخيًا السيطرة الأيديولوجية، ومأسسة العنف، والمراقبة الجماعية، ونزع الصفة الإنسانية لتنفيذ حملات إرهابية واسعة النطاق، مستخدمةً أمثلةً مثل الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين وألمانيا النازية. وأخيرًا، ستُطبّق هذه الأنماط النظرية والتاريخية على الأحداث الجارية في غزة، مُبيّنةً الطبيعة الدائمة للعنف الجماعي الذي ترعاه الدولة في العالم الحديث.
أولاً: كيف تُنتج الدولة العنف الجماعي؟
تُعرَّف الدولة من خلال عملها المستمر بأنها: منظمة سياسية إلزامية، حيث يدعم طاقمها الإداري بنجاح المطالبة باحتكار الاستخدام المشروع للقوة المسلحة داخل إقليم معين. هذا الاحتكار يمنح الدولة بطبيعتها القدرة الأكبر على القتل الجماعي المنظم. إن تنظيم العنف من خلال سلطة الدولة يتم الحفاظ عليه في نهاية المطاف من خلال قدرتها على إظهار قوة تفوق قوة أي منافسين، مما يعني أن القتل الجماعي هو أمر أساسي، لما تفعله الدول لتحقيق النصر في الصراعات حول القضايا والأراضي.
إن عمليات القتل الجماعي ليست أفعالاً عشوائية ناتجة عن غضب فردي، بل هي “فظائع سياسية”: حملات جماعية منظمة، ينفذها أشخاص في السلطة عمداً. وفي حين أن التحليلات التقليدية غالبًا ما تحاول تفسير القتل الجماعي من خلال النظريات العقلانية البحتة (الحسابات الاستراتيجية للاحتفاظ بالسلطة أو الفوز بالحروب)، أو النظريات الوضعية (الضغوط الاجتماعية والطاعة)، فإن هذه الأساليب تفشل في تفسير سبب تبني مثل هذه السياسات، حتى عندما تكون كارثية من الناحية الاستراتيجية أو متطرفة من الناحية الأخلاقية.
تنتج الدولة العنف الجماعي من خلال سياسات أمنية متطرفة أيديولوجياً، ونادرا ما يكون القتل الجماعي تخليًا عن المخاوف التقليدية، بل هو “إعادة تفسير جذرية” للأفكار الاستراتيجية والأخلاقية المألوفة، مثل الأمن القومي والضرورة الوطنية والحفاظ علي الدولة… إلخ، والتي يتم تضمينها في السرديات الأيديولوجية المتطرفة. يفترض هذا المنظور، أن الدول المعرضة للقتل الجماعي تسترشد بمبادئ أمنية أيديولوجية “متشددة”.
إن قرار اللجوء إلى القتل الجماعي عادة ما يأتي عندما تواجه النخب السياسية أزمة سياسية (مثل الحرب أو عدم الاستقرار السياسي أو الركود الاقتصادي أو الانقلابات العسكرية). في هذه اللحظات، تُشكل الأيديولوجيات المتشددة تصورات النخبة بطرق حاسمة:
1. بناء التهديد: تبالغ الأيديولوجيات المتشددة في تقدير المخاطر الحقيقية أو المتصورة، وتصوّر السكان المدنيين المستهدفين، على أنهم تهديدات وجودية أساسية أو متآمرون إجراميون. علي سبيل المثال، كان القتل الجماعي في جواتيمالا محددًا إلى حد كبير من خلال المفاهيم الأيديولوجية المسبقة للنخبة العسكرية عن السكان الأصليين للمايا، باعتبارهم تخريبيين بطبيعتهم.
2. الأساس الاستراتيجي: تؤثر الأيديولوجية على تقييم السياسات المناسبة والفعالة لتحييد هذه التهديدات. فغالبا ما تظهر السياسات التي تبدو كارثية من منظور خارجي “مفيدة استراتيجيًا وقابلة للدفاع عنها أخلاقيًا” للجناة الذين يعملون ضمن إطارهم الأيديولوجي.
3. تدمير البدائل: تُقيّد الأيديولوجيا المتشددة “مجال الاحتمالات”، فتُقصي الخيارات السياسية الأقل تطرفًا، وتجعل القتل الجماعي، يبدو أمرًا لا مفر منه أو ضروريًا استراتيجيًا.
وتؤدي هذه العملية إلى تحويل أجهزة الأمن التابعة للدولة (الجيش والشرطة وأجهزة الاستخبارات) إلى الأداة الأساسية لارتكاب العنف الجماعي، بالاعتماد على المعايير والقدرات التنظيمية المتأصلة في مثل هذه المؤسسات.
إن العنف منهجي بطبيعته، مما يؤدي إلى إنشاء تحالف قوي من الجناة ضروري لبدء وتنفيذ ودعم القتل.
ثانيا: ديناميكيات الدولة وكيفية توريط الأفراد في الإبادة الجماعية
الإبادة الجماعية هي: عملية معقدة تنطوي على مشاركة واسعة النطاق عبر مستويات متعددة من المجتمع- من النخب السياسية التي تبدأ العنف، إلى العملاء العاديين الذين ينفذونها، والدوائر العامة الأوسع التي تدعمها أو توافق عليها. يتطلب هذا البناء التفاعل بين ديناميكيات الدولة (البنية التحتية الأيديولوجية، الإكراه) وعلم النفس الفردي (الدوافع، المطابقة، حيث تكون المطابقة هي الدافع القوي لدى الفرد لتعديل سلوكه، آرائه، أو معتقداته؛ لكي تتوافق أو تتلاءم مع معايير أو توقعات مجموعة اجتماعية معينة.
غالبًا ما تفترض التفسيرات الأيديولوجية الشعبية والتقليدية، أن عمليات القتل الجماعي مدفوعة بـ “المؤمنين الحقيقيين” أو “المواطنين الشرفاء” المتحمسين أيديولوجيًا، والذين يمتلكون قناعات عميقة في الأهداف المتطرفة أو الكراهية. ومع ذلك، فإن عقودًا من الدراسات العلمية تدحض هذا، حيث وجدت أن مرتكبي العنف المنظم هم عمومًا “أشخاص عاديون”، وأن المرض العقلي أو الغضب الأعمى نادر في وسطهم.
وبدلاً من ذلك، يؤكد المنظور الإيديولوجي الجديد، على أن الأيديولوجية تربط تحالفات متنوعة من الجناة من خلال آليات سببية متعددة. العامل الرئيسي هو إنشاء بنية تحتية أيديولوجية- مزيج متبادل من تعزيز الأفكار المتشددة المقبولة بصدق إلى جانب المعايير والمؤسسات المتشددة التي تولد ضغوطًا اجتماعية وبنيوية شديدة، وتستغل هذه البنية التحتية دوافع عادية يتشاركها الناس العاديون مثل:
1. الطاعة للسلطة: يزدهر الإرهاب الذي ترعاه الدولة على أساس الطبيعة البيروقراطية والهرمية للدولة، حيث يقمع الأفراد المخاوف الأخلاقية، ويحددون واجبهم باتباع الأوامر. يتم تسهيل هذا الخضوع من خلال تصور أن السلطة (على سبيل المثال، الفوهرر، الحزب، العمدة المحلي) شرعية، ونقل المسئولية من الفاعل الفردي إلى شخصية السلطة. في رواندا، أُعيد تفسير الممارسات الراسخة للعمل المجتمعي (أوموغاندا)، واستُخدمت من قِبَل السلطات المحلية، مما جعل أمر قتل التوتسي، يكتسب “طابعًا قانونيًا” من خلال هياكل السلطة القائمة.
2. التوافق والضغط من جانب الأقران: داخل المجموعات، فإن الرغبة في التوافق، إلى جانب الضغط من جانب الأقران والخوف من الإقصاء الاجتماعي أو وصفهم بالخيانة، تجبر الأفراد على المشاركة، حتى لو كانوا يفتقرون إلى القناعة الأيديولوجية. إن التأثير النفسي للجماعة يسهل انتشار المسئولية ونزوحها، مما يخفف من القيود الأخلاقية.
3. الدوافع الانتهازية: تخلق الدولة في الإبادة الجماعية فرصًا واسعة للأفراد لمتابعة المصالح الذاتية، مثل المكاسب المادية (النهب والمصادرة)، والتقدم الوظيفي، وتسوية الخلافات الشخصية تحت ستار سياسة الدولة. في رواندا، استغلّ الفاعلون المحليون الإبادة الجماعية لكسب السيطرة السياسية، والقضاء على المنافسين، والاستيلاء على الأراضي.
4. الإكراه: إن التهديدات بالقتل أو السجن لعدم الامتثال تعتبر ذات مصداقية في ظل الدول الشمولية أو الإبادة الجماعية. في حين تحذر الدراسات القضائية من المبالغة في تقدير نطاق الإكراه، فإن التهديد المتصور بالعقاب على عدم المشاركة يمثل دافعًا قويًا، لا سيما في سياقات مثل الخمير الحمر في كمبوديا، حيث كان الخوف من وصفهم بـ”العدو الداخلي” متفشيًا.
تستخدم ديناميكيات الدولة بشكل منهجي آليات نفسية للتغلب على الموانع البشرية العميقة الجذور ضد القتل.
إن نزع الصفة الإنسانية عن الفئات المستهدفة أمر بالغ الأهمية، لأنه يجرد الضحايا من وضعهم كبشر، ويستبعدهم من “عالم الالتزام”، ويشرعن العنف أخلاقياً. يتم تشجيع الجناة على اعتبار الضحايا “مخلوقات دون البشر”، وغالبًا ما يتم تصنيفهم، على أنهم آفات أو حشرات أو حيوانات خطرة. على سبيل المثال، أشارت الدعاية النازية إلى اليهود، على أنهم “حشرات” و”قمل”. بينما أطلق متطرفو الهوتو على التوتسي اسم “الصراصير” (inyenzi)، واعتبر الساسة الإسرائيليون الفلسطينيين حيوانات بشرية. تسمح هذه المسافة النفسية بارتكاب أعمال القسوة، دون التسبب في الضيق الأخلاقي أو النفسي المرتبط عادةً بقتل نفس النوع.
علاوة على ذلك، فإن المسافة الجسدية والاجتماعية تسهل الانفصال الأخلاقي. إن تكنولوجيا الحرب الحديثة، وخاصة القصف الجوي والطائرات المسيرة والروبوتات القاتلة، تخلق مسافة بين الجاني والضحية، مما يجعل فعل القتل وظيفة مجردة أو واجبًا فنيًا، وفي أحيان يتم تفويضه للآلة- كما في إبادة الخوارزميات.
في حملات القتل الجماعي، يُبعد تقسيم العمل الذي يتم بين عدد كبير من المتورطين في القتل، الجناة الأفراد عن واقع القتل الفوضوي، ويُقلص مهمتهم إلى جزء من عملية بيروقراطية أكبر (مثل تنظيم لوجستيات النقل أو حراسة السجون).
ثالثًا. الأنظمة الشمولية وإرهاب الدولة
تمثل الأنظمة الشمولية أقصى تعبير عن قدرة الدولة على ممارسة العنف، من خلال تنفيذ الإرهاب على نطاق واسع عبر الاستخدام الشامل للسيطرة الأيديولوجية، والمؤسسات، والمراقبة، وإزالة الطابع الإنساني عن الناس.
فالأيديولوجية الشمولية بمثابة “سرد رئيسي”، يرسم حدود المجتمع السياسي، ويحدد صراحة الأعداء الداخليين والخارجيين، والذي يعتبر القضاء عليهم ضروريا من أجل التطهير الاجتماعي أو الخلاص الوطني.
كان النظام الستاليني متجذرًا في عقيدة أمنية متشددة للغاية، كانت عمليات القتل الجماعي مدفوعة بهوس متطرف، غالبًا ما كان جنونيًا بأمن الدولة والقضاء على “الأعداء الداخليين”. أدى هذا الخوف إلى استهداف فئات أيديولوجية غامضة التعريف مثل، “العناصر الضارة اجتماعيًا” و”المؤامرات التروتسكية” وطبقة “الكولاك”- كبار الملاك الزراعيين. قامت الدولة بتأسيس الإرهاب من خلال مفهوم “اليقظة الثورية” مطالبة المواطنين بإدانة الخونة المزعومين، وضرورة أن يتجاوز المسئولون حصص الإعدام. تم تجريد الضحايا من إنسانيتهم، واعتبارهم “كائنات فضائية” و”كلابًا” و”زواحف” و”حشرات ضارة”. كان نطاق عمليات التطهير، مثل الإرهاب الأعظم في عامي 1937 و1938، غير منطقي من الناحية الاستراتيجية، مما أدى إلى شل الجيش الأحمر والإنتاج الاقتصادي، ومع ذلك فقد تم اعتباره ضروريًا وعقلانيًا ضمن إطار الأمن الأيديولوجي الشامل.
وفي ألمانيا، رفعت النازية الأيديولوجية العنصرية إلى مستوى التبجيل الديني تقريبًا، بهدف التطهير العرقي وإنشاء مجتمع مثالي. كانت حملة الدولة متجذرة في العنصرية شبه العلمية التي عرّفت اليهود والغجر والمثليين جنسياً والمعاقين ذهنياً على أنهم أقل من البشر وتهديدات وجودية للعرق الآري. تم نشر هذه الأيديولوجية من خلال دعاية شاملة، بما في ذلك صور ولغة تصور الضحايا على أنهم وحوش وشيطانيون ويحتاجون إلى التطهير مثل “الأعشاب الضارة” أو “الحشرات الضارة”.
لقد وفرت الأيديولوجية المعادية للسامية الشرعية اللازمة للإقصاء والتمييز وتنفيذ “الحل النهائي” في نهاية المطاف.
وفي كمبوديا، أنشأ الخمير الحمر، تحت قيادة بول بوت، نظامًا شموليًا فريدًا من نوعه. كان العنف مدفوعًا بأيديولوجية معادية، تهدف إلى التطهير الوطني، بهدف خلق مجتمع خمير متماسك بلا طبقات. تم تعريف الأعداء في المقام الأول وفقًا لمعايير سياسية وأيديولوجية، وتم تصنيفهم على أنهم “أجساد خميرية بعقول فيتنامية” أو “ميكروبات” و”آفات”. تم الحفاظ على هذه الأيديولوجية من خلال المراقبة المستمرة وجلسات النقد الذاتي الإلزامية، حيث أُجبر الأفراد على الامتثال أو المخاطرة بإدانتهم باعتبارهم خونة.
إضفاء الطابع المؤسسي على العنف
استغلت الأنظمة الشمولية التنظيم البيروقراطي الحديث والتكنولوجيا لتنفيذ جرائم القتل بشكل منهجي وفعال.
إن الهولوكوست هو المثال النموذجي للعنف الإبادي الذي تم تنفيذه من خلال وسائل عقلانية وبيروقراطية. اعتمد العنف على التقسيم المتخصص للعمل والتنظيم الفعال المتأصل في هياكل الدولة الحديثة، مما أدى إلى تحويل القتل إلى عملية تقنية خالية من التدخل الأخلاقي. ركز المسئولون فقط على مهامهم المقسمة (على سبيل المثال، جداول السكك الحديدية، والمحاسبة، وإنتاج الغاز). وقد أدى هذا التقسيم الوظيفي للعمل إلى تعظيم المسافة النفسية، حيث انفصل الأفراد عن النتيجة النهائية لمهمتهم.
في عهد ستالين، تم إصدار أهداف وحصص عشوائية للمنظمات المحلية للحزب والشرطة (GPU/NKVD). غالبًا ما تجاوز المرؤوسون المتحمسون هذه الحصص لإظهار الحماس الثوري أو تجنب الشكوك بأنفسهم. أدى هذا إلى خلق ديناميكية قاتلة ومستمرة استبدلت التعليم الأيديولوجي الواضح بعمل عشوائي.
اعتمدت الدول الشمولية على المراقبة الجماعية الشاملة لضمان الامتثال وتحديد الأعداء. على سبيل المثال، استخدمت جمهورية الدومينيكان في عهد تروخيو جهاز الاستخبارات العسكرية (SIM)، وشبكة واسعة من الجواسيس لفرض الخضوع المطلق، مما جعل العنف غير المبرر والتعذيب والاختفاء أساليب شائعة وفعالة للإرهاب النفسي. وبالمثل، أنشأت كوريا الشمالية في عهد آل كيم دولة بوليسية هائلة ونظام تصنيف “عدائي” لستة ملايين مواطن، يخضعون للمراقبة المستمرة والتهديد بالإعدام أو السجن في نظام غولاغ، ويفرضون “سيطرة كاملة على عقولهم”.
رابعًا. الدولة والعنف الجماعي وغزة
يقدم العنف والإبادة المعاصرة في غزة، الذي لم يبدأ في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بل كان مكونا أساسيا من تاريخ المشروع الصهيوني، دراسة حالة حديثة رفيعة المستوى، توضح ارتكاب دولة حديثة للعنف الجماعي، مبررة بروايات التهديد والدفاع عن النفس وإزالة الإنسانية.
تميزت الحملة العسكرية الإسرائيلية بالعنف النشط وحجم الدمار الذي يفوق بشكل متناسب قصف الحلفاء لألمانيا في الحرب الثانية. وقد صاحب ذلك خطاب صريح من القادة الإسرائيليين، ينزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين. على سبيل المثال، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي العدو بـ”الحيوانات البشرية”. هذه آلية صريحة لنزع الصفة الإنسانية، لا تعمل كبيان للاعتقاد البيولوجي، بل كـ”إذن” سياسي لممارسة العنف خارج القيود الأخلاقية والقانونية الطبيعية.
يتم تبرير العنف، باعتباره دفاعًا ضروريًا عن النفس ضد التهديد الوجودي المتصور. ويتم استغلال هذا الخوف لتبرير التدابير المتطرفة، بالاعتماد على منطق يؤكد ضرورة العنف غير المحدود في مقابل الخوف من العنف. تتوافق هذه الاستراتيجية مع النتيجة الأساسية التي مفادها، أن القتل الجماعي، غالبًا ما ينشأ من البناء الأيديولوجي للتهديد لتبرير تدابير الإبادة.
إن تنفيذ العنف في غزة يستغل البنية التحتية للدولة الحديثة، بما في ذلك الاعتماد على التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، مما يؤدي إلى تدمير البنية التحتية المدنية (المدارس والمستشفيات والجامعات). هذا الاعتماد على أساليب القتل “الشريرة غير الشخصية”، مثل خوارزميات الذكاء الاصطناعي والأسلحة المتطورة، يخلق مسافة بين الجاني والضحية، مما يخفف من القيود الأخلاقية.
إن رد الفعل الدولي على الأحداث في غزة يسلط الضوء على التناقضات الدائمة بين سلطة الدولة، وبين العنف الجماعي في النظام العالمي من قبيل:
1. سيادة الدولة والإفلات من العقاب: على الرغم من القواعد القانونية والتوثيق الواسع للقتل الجماعي، فشل النظام الدولي باستمرار في فرض المساءلة على الدول القوية. إن سيادة الدولة المرتكبة للجرائم غالبًا، ما تدعي الحق في ارتكاب المجازر ضد رعاياها.
2. الالتباس الأخلاقي: انخرطت النخب السياسية الغربية في الإنكار والتعتيم واستخدام لغة معقمة (“الأضرار الجانبية”) لإبعاد أنفسهم عن الفظائع، مما يوضح كيف يتم تحريف لغة السياسة الأمنية للسماح بالعنف الشديد.
3. الضحية والأيديولوجيا: يتضمن الصراع صدامًا بين سرديات الذاكرة، حيث يستخدم بعض القادة السرد التأسيسي لإسرائيل عن الضحية (المحرقة) لتبرير تدمير الفلسطينيين، وبالتالي تحويل ضحية الأمس إلى جلاد اليوم.
إن الأحداث في غزة تعكس نمطاً، تفرض فيه الدولة المسلحة بأيديولوجيا متطرفة وأنظمة بيروقراطية وتكنولوجيا متقدمة، عنفاً كارثياً يبرره نزع الصفة الإنسانية عن المجموعة المستهدفة وتأطيرها أيديولوجياً، باعتبارها عدواً لا يمكن التوفيق بينه وبينها.
خاتمة
الدولة لا غنى عنها في تخطيط وتنفيذ العنف الجماعي، وهو اتجاه ازداد قوةً بشكل كبير في عصر العسكرة والبيروقراطية الحديثين. سلطة الدولة تُنتج القتل الجماعي ليس كتشويه للتاريخ، بل من خلال عملية سياسية مدروسة متجذرة في عقائد أمنية متطرفة أيديولوجيًا، تُعامل الفئات المستهدفة معاملةً مرضية، وتُجرّدها من إنسانيتها، لا سيما في أوقات الأزمات والحروب.
كما رأينا في حملات القتل الجماعي الشاملة مثل، عمليات التطهير التي شنها ستالين (والتي كانت مدفوعة بالجنون السياسي) ومحرقة النازية (والتي كانت مدفوعة بالتطهير العنصري والكفاءة البيروقراطية)، والإبادة في غزة (التي كانت مدفوعة بأيديولوجيا متطرفة وتكنولوجيا حرب متقدمة)… يعتمد تنفيذ إرهاب الدولة على الهياكل المؤسسية والآليات النفسية التي تستغل الدوافع “العادية” للمواطنين العاديين- الطاعة، والتوافق، والمصلحة الذاتية- لتحويلهم إلى موظفين في القتل.
إن المأساة المستمرة في غزة تؤكد بشكل مأساوي أن الدولة الحديثة تحتفظ بالقدرة على إحداث مثل هذا التدمير، باستخدام الخطاب اللا إنساني والبنية التحتية العسكرية لمتابعة سياسات الإبادة، بينما تستفيد من الشلل الأخلاقي والسياسي للنظام العالمي. إن فهم هذه العلاقة المعقدة بين سلطة الدولة والأيديولوجيا والقدرة الطبيعية على القتل المنظم أمر ضروري لمواجهة التحدي الأخلاقي الأعمق في عصرنا.






