فلنزح جانبًا وسريعًا أي: (استهجان، توجس، التباس) من العنوان فالتطرق للمصالح العليا للدولة متعلق فقط بالمصنفات الفنية، وبالتحديد القطعي فإننا لن نقارب تلك المصالح إلا فيما يتعلق بالنصوص الدستورية والقوانين التي تنظم عملية إنتاج وعرض المصنفات السمعية والسمعية البصرية.
كان القانون رقم 430 لسنة 1955، الذي يعرف بكونه قانون الرقابة على المصنفات الفنية، وهو في مسماه الرسمي: “قانون تنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحري والأغاني والمسرحيات والمنولوجات والأسطوانات وأشرطة التسجيل الصوتي”، قد وضع مصالح الدولة العليا على محك خطر، أو على الأقل في موضع قلق.
ذلك أن القانون، مع التعديلات التي دخلت عليها، والأحكام القضائية الملزمة التي صدرت بموجبه، وضع ملابس راقصة في ملهى ليلي، أو غناء شاب على مقهى شعبي، أو جماعة تنشد في مدح الرسول أسفل الشرفات في أحد الأحياء، كل هؤلاء وغيرهم الملايين، من دون مبالغة، وضعهم القانون أمام تحدي المس بمصالح الدولة العليا.
اقرأ أيضًا.. “ناصر والسادات” .. أول جسر بين الرئيس والفنان
فالمادة الأولى من القانون تنص على أن: “تخضع للرقابة المصنفات السمعية والسمعية البصرية، سواء كان أداؤها مباشرًا، أو كانت مثبتة، أو مسجلة على أشرطة، أو أسطوانات، أو أي وسيلة من وسائل التقنية الأخرى، بقصد حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا”، هذا الثلاثي المتكامل الإبهام يواجه الجميع، وإذا كان الأمر يهون مع النظام العام، وقد نتفاهم مع الآداب إلا أن وقع كلمات مصالح الدولة العليا مفزع في بعض الأوقات والظروف التي طالما امتد أجلها في مصر، فمنذ صدور القانون حتى لحظتنا الحالي عاش المصريون سنوات قليلة من دون أن يظللهم قانون الطوارئ والظروف الاستثنائية.
وضع القانون نتيجة اقتراح تقدم به وزير الإرشاد القومي صلاح سالم (تولى الوزارة من 1953 حتى 1958)، وفي المذكرة الإيضاحية للقانون، التي نتعرف من خلالها على دواعي مواد القانون وفلسفته وتوضيح أهميته، نلاحظ أن الدافع لسن القانون هو الأخذ “بما جرى عليه العمل في جميع الدول من بسط رقابة الدولة على المواد الفنية البصرية والسمعية”، وهو ما يعني أنه لو كان هناك اتجاه عام للتخفف من صرامة الرقابة، أو حتى إلغاء عملها في مستويات عمرية معينة، فقد تفعل مصر ذلك جريا على ما يحدث في دول العالم، أو الأغلبية على الأقل، النقطة الثانية في تحديد أسباب سن القانون هي “أثرها الكبير في نفوس المشاهدين والمستمعين”، وهذا مفهوم، لكن النقطة الثالثة غريبة بعض الشيء فهي تنص على “هبوط المستوى الفني لبعض الأغاني والمنولوجات والأفلام السينمائية والأسطوانات والمصنفات الفنية الأخرى”، فما علاقة المستوى الفني بالثلاثي المرعب. وختمت المذكرة الإيضاحية للقانون عرض مسبباته بالتأكيد على أن الغرض المباشر من سن القانون، هو: “رفع المستوى الفني للمصنفات التي تخضع للرقابة وفي تمكين السلطات القائمة عليها من خلق رقابة واعية رشيدة متطورة”.
تتبع مسار القانون وتعديلاته والأحكام القضائية الصادرة بموجبه يكشف إلى أي مدى تم حصار المصالح العليا للدولة، فقد أصدر رئيس الجمهورية (جمال عبدالناصر) بناء على مقترح من وزير الثقافة ثروت عكاشة قرارًا بنقل اختصاصات وزارة الثقافة المنصوص عليها في القانون إلى وزارة السياحة، بالنسبة إلى البرامج الترفيهية والترويحية التي تعرض بالمحال العامة والملاهي الليلية التي تخضع لإشراف وزارة السياحة، ربما كان ذلك تخفيفًا من أعباء الرقابة، أو حتى ترفعًا من عكاشة عن أن يطارد موظفو وزارته مصالح الدولة العليا في تلك الزوايا. لكن الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، أعاد الاختصاص للثقافة، فقد أفتت في سنة 1994، باختصاص وزارة الثقافة في إصدار التراخيص والرقابة على المصنفات الفنية التي تؤدى في المنشآت الفندقية والسياحية.
الأهم أن مجلس الدولة أبرز في فتواه أنه بناء على اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم أعمال الرقابة على المصنفات السمعية والسمعية البصرية الصادرة سنة 1993، وعلى التعديل الذي جري في العام السابق على قانون 1955، حددا شروط وأوضاع المكان العام، حيث “يعتبر في حكم الأمكنة العامة المقاهي وما يماثلها والنوادي الاجتماعية والرياضية والفنادق ووسائل المواصلات العامة”.
ها نحن منذ عام 1993 نضع الغناء في المترو، أو أي تعبير فني على المقهى في مواجهة النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا. ليست هناك رغبة في المبالغة: لو أن شخصًا حمل عودًا وتجول في شارع المعز ودعاه بعض الجالسين على أحد المقاهي في الشوارع الجانبية ليعزف لهم أغنية ما فقد خضع الجميع لقانون الرقابة ومقاييس مصالح الدولة العليا.
على ذلك المقهى الافتراضي هناك مجالان متداخلان صناع المصنفات السمعية والسمعية البصرية وهناك جمهور متلقي، والقانون يتعلق بالمصنف: الأشرطة السينمائية، المسرحيات، الأغاني، المنلوجات أو ما يماثلها بقصد الاستغلال. بالإضافة إلى لوحات الفانوس السحري أو ما يماثلها، ومكان عام، ثم هناك المجال الخاص، أي إذاعة المسرحيات أو الأغاني أو المنلوجات أو ما يماثلها، وبيع الأشرطة الصوتية أو الأسطوانات أو ما يماثلها أو عرضها للبيع، أو تصدير أيا من هذه المصنفات المبينة خارج مصر.
هذا البناء المحكم المعد لحماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا كان يبدو ناقصًا بالنسبة للسلطة فتمت إضافية حماية له، فحتى يوم 21 يونية سنة 1978 كان الأمر متعلقًا بالمصنف الفني وعرضه للجمهور- سواء أفي أماكن عامة أو أماكن خاصة، لكن في اليوم التالي نشرت الوقائع المصرية قانون “إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية”، ومعه أصبح الأمر ليس فقط رقابة المصنف بل تحديد صناعه، وبذلك فحامل العود ذاك عليه أن يراعي مصالح الدولة العليا في الاتجاهين، فيحصل على تصريح من النقابة بممارسة المهنة، ثم لتصريح من الرقابة بما سيقدمه للجالسين على المقهى.
وفرضية أن صاحب العود يريد أن يستبق تقديم طلب الترخيص من الرقابة ويرغب في تبيان حدود مصالح الدولة العليا فرضية جذابة، فإلى أين يذهب، وممن أو من أي نص، أو نصوص، سيطلب المساعدة؟