(كنت فاردة شعري ولسه حلوة قبل ما اتبهدل هنا.. مخبر قالي شكلك آداب وأنا سكت من خوفي، لغاية ما جه ظابط قاله دي سياسة يا أهبل آسف يا أستاذة… لما دخلت وقلعوني كل دهبي وهدومي وخدوا مني حتى التوكه علشان كانت معدن ولبست الشُل وكان مقطوع من ع الصدر وخدت جزمتى ومكنش معايا شبشب وبقيت حافيه ودخلوني الإيراد ده وشوفت الستات نايمه إزاي وفضلت تزق بين اتنين علشان تنزلنى في النص بينهم وفردت لي رجليا غصب عني بايدها وزقت رجل اللى تحتي فوقي برجلها، كنت بعيط من غير ولا كلمة وقعدت أيام مش باكل ولا بتكلم وكنت بقول لنفسي أنا مُت وده الكفن ودي التُربة).
**كلمات أم لثلاث أطفال وزوجة وهي إحدى السجينات السياسيات التي قابلتها في سجن القناطر.
الإيراد اسم من مصدر “أورَدَ” ومرتبط في أذهاننا عامة بالمكسب مثل إيراد المحل أو الشركة، أما “أَرَدَّ” كفعل فمن ضمن معانيها لغويا “هاج وغضب”، ولو كنت سأحاول أن أعرفها باحدى المعنين أظن أني سأميل بكفتي نحو معناها كفعل فلا مكسب لأي جهة ولا شخص من ورلااء الوضع في “إيراد السجن” أما معناها كفعل فهو الوصف الذي يليق بالشحنة العاطفية التي ملئت صدري فور خطوت داخل “الإيراد”.
على كل من المؤكد أن معنى عنبر الإيراد ليس مقصود به أيا من المعنيين، إنما هو ببساطة مكان احتجاز “الواردين” من مساجين جدد من كافة التهم المختلفة وسواء احتياطي أو محكوم، وكما لا يهتم أغلب الداخلين لهذا المكان بمعنى “اسمه” حتى أن بعض السجينات ينطقون اسمه “إيراض” ويظنون أن معناه -ترويض المسجون- أو بالبلدي -تأديبه- ويمكنني تفهم سبب فهمهم للأمر بهذا الشكل!
هو غرفة مساحتها حوالي 35 مترا مربعا بداخلها حمام بلدي وحنفية عالية للاستحمام، في الوقت الذي دخلته كان يحتوي فقط على ثلاث أسِرَّة (تم زيادتهم لاحقاً إلى 6 أسِرَّة) تلك المساحة يتشاركها في الوقت الذي دخلت فيه الإيراد أول مرة كان (105 امرأة)، 105 امرأة من بيئات ومناطق مختلفة، من محافظات وثقافات وقضايا متباينة، مئة وخمسة امرأة يتباينون فيما بينهم تباينا واسعا يجعلهم حريصون على البحث عمن يشبههم في تلك المأساة يجعلهم قادرين بشكل أو بآخر على تجاوزها وعمل عدد من العلاقات والمصالح تنفعهم في فترة حبسهم سواء المعروفة بالنسبة للمحكوم عليهم أو المتوقعة بالنسبة للمتهمات قيد التحقيق من الجنائيات، أو لمدة غير محددة الأجل بالنسبة للسياسيات.
أطلب من كل إنسان يقرأ أن يحاول أن يغمض عينيه ويتخيل غرفة صغيرة بها شباك واحد كبير وبداخلها مربع صغير مغلق بباب خشبي هو الحمام، يملأها أكثر من مئة إمرأة من كافة الأعمار والأشكال يلبسن جميعهن الملابس البيضاء غالباً “جلابية السجن” التي يطلق عليها “الشُل” ويوجد بأعلى السقف مروحتين وعلى الحائط بعض المسامير معلق عليها حقائب وأكياس. هؤلاء النسوة ممنوع عنهن التريض أو الخروج لأي سبب من تلك المساحة الضيقة ليلا ونهارا لمدة لا تقل عن 11 يوم وقد تصل في بعض الحالات إلى شهر.
أما النوم فالمحظوظات وحدهن من يملكن سلطة بشكل أو بآخر -سنوضح أنواع السلطات في السجن في مقال قادم- هن من يحظين بالنوم على الفراش -كنت منهن في المرة الأولى، وفي الثانية ليوم واحد قبل أن يتم نقلي للانفرادي- أما الباقيات فيجلسن القرفصاء طيلة النهار ولو وقفت إحداهن لتريح قدمها فغالبا يتم تعنيفها من قبل “النبطشية: مسجونة قديمة يتم إعطائها صلاحيات داخل العنابر من قبل الإدارة لتنفيذ أوامر الإدارة داخل العنبر”، أما في الليل فبالرغم من محاولة “الجزار” نبطشية عنبر الإيراد وقتها، استخدامها لدهائها ومحاولتها المستمية “لتنويم 105 إمرأة في تلك المساحة، إلا أنها فشلت فاضطرت لاقتراح أن ينام نصف العدد “سيف وإلحم” أي تنام على جانبها وتفرد جسدها تماما وتلحم بجانبها مسجونة أخرى بالوضع نفسه وهكذا دواليك حتى انتهاء الصف، ويبدأ الصف الجديد بأقدام اتجاه الاقدام وتضع قدمي الواحدة فوق الأخرى.
لحم متصل بلحم وشكاوى من رائحة عرق إحداهن أو أقدام الأخرى التي تضعها فوق التي أسفلها، أو احتكاك جنسي بين اثنين مرة بالتراضي ومرات بالإكراه وأصوات تتعالى بالسباب والرفض. ونبطشية تهدد بالضرب وتحرك ذراعها يمينا ويسارا في حركة إباحية لمن يعلو صوت صراخها مرددة دوما “إيه اتبسطتي؟”
كنت أنظر لهن وأراهن كأنهن موتى ملفوفات في أكفانهن، وهل كن أحياء؟ هل كنت حية في هذا المكان؟
أما النصف الآخر من لم يسعه المكان، فيجلس بجانب الحمام قرفصاء يحظون بفرصة شرب الشاي والسجائر ليلا وهو الأمر الممنوع وفقاً لنظام السجن بعد “التمام” حتى الفجر، وبعد الفجر يستيقظ النائمون لتستبدل أماكنهن بالمستيقظات اللاتي يبدأن في النوم جلوساً من التعب، ليصحى الجميع مع فتح باب العنبر إجبارياً في الساعة 9 صباحاً ويصطفون صفوفا خلف صفوف قرفصاء جالسون، المستيقظون من الفجر والنائمون الفجر.
بالرغم من أني أشعر بالحرج لوصفها عناءً، إلا أن النوم على الفراش لم يكن برفاهية أبدا إلا إذا قورن بتعذيب الأرض، لقد كنا خمسة سياسيات على فراش واحد، تم تسكيني وأخرى على الفراش والثلاث الآخريات كان مفترض نومهن أرضاً إلا أننا قررنا أن ينمن معنا عسى أن نقلل وضع الأرض بؤسا ونريح شيئاً من وخز ضمائرنا. والفراش الثاني سياسية -بوضع خاص رفضت أن تنام بجوارها سياسية معارضة (وكانت حالة شاذة وجود سياسية مؤيدة بين كل من في السجن) ونام بجوارها تاجرة مخدرات صاحبة سلطة، والفراش الثالث هو ملك “النبطشية” وحدها.
بضعة أيام، وكان الجميع مرهق بعيون حمراء ووجوه صفراء وشعور مشعثة وصدور مرهقة من التدخين ليلا نهارا إيجابيا أو سلبياً، وروائح كريهة وملابس متسخة، في الأصل غير مسموح للسجينات في “الإيراد” الحموم مطلقاً ولا غسيل ملابسهن الخارجية “الجلابية” إلا أنه بسبب الزحام الشديد والخوف من انتشار أمراض جلدية ومشاكل صحية تم السماح بالحموم وتغيير الجلابية بأخرى لكن كل ثلاثة أيام بالنسبة للجميع إلا كالعادة المحظوظات أصحاب السلطة، وليكن راكزاً في ذاكرتنا دوماً أن في السجن لكل قاعدة وقانون إستثناء وهذا الإستثناء يتم إعطائه بمعايير السلطة وحدها فلا مجال لمعايير أخرى مثل القانون أو الإنسانية وغيرها.
“في قملة على الحيطة” كانت تلك الجملة التي صاحت بها إحداهن وهي تشير إليها في برود كفيلة بإحداث حالة هرج مصحوبة بضحك ومرح من أغلبهن أما بالنسبة لي ولبعض الأسيرات في هذا المكان خارج كل القوانين فكان الوضع محرجاً ومخيفاً ومؤلماً في الآن نفسه.
ليلة خروجي من السجن علقت على شعري الطويل إحدى الزميلات التي حضرت مشكورة لاستقبالنا ومساعدتنا للرجوع لمنازلنا، أذكر ما قالته “شعرك طول هناك، كويس إنك حافظتي عليه أكتر اللي اتسجنوا بيقصوا شعورهم علشان مشاكل القمل والنضافة” …
كان ظهور تلك “القملة” سبب في فرض عملية -جرد- إجبارياً على كافة السجينات (ماعدا السياسيات)، وكان من يظهر في شعرها الحشرات يتم جردها في الحمام ورش شعرها -بالفليت-، في حالة مؤلمة من السخرية والشماتة من الأخريات. استمر القمل في الظهور ومع الوقت ظهرت أيضا مشاكل جلدية من الاحتكاك والنوم في عرقهم حرفياً في المساحة الضيقة ثم ظهرت حالات الإعياء المستمرة وإنخفاض حاد في الدورة الدموية والسكر والضغط خاصة لدى كبار السن من تجاوزن ال60 عاما. ولم يكن مسموح لهن بالذهاب إلى المستشفى وفي حالة تعرض إحداهن للإغماء تقوم النبطشية نفسها بعدد من الإسعافات الأولية البدائية التي فلجت في أغلب الحالات، إلا سيدة تجاوزت الستين عاما وكانت محبوسة احتياطيا هي وابنتها في “خناقة” سقطت مغشي عليها وأصفر وجهها الأسمر بشده وتقطعت أنفاسها حتى وافقت النبطشية على مناداة السجانة لتفتح الباب وتخرج للمستشفى، وبعد حوالي نصف ساعة فتحت الباب وخرجت “الحجة عزيزة” للمستشفى وعادت بعد ربع ساعة مسنودة وأفسحت لها مكان بجوار الحائط لتستند عليه وأسفل فراش النبطشية لتحظى بمساحة أوسع في النوم، وكانت تلوم ابنتها لأنها تركت أمها منذ دخولها السجن “من ٤٨ ساعة” لم تأكل لهذا كادت تموت.
في الإيراد لا يوجد مكان ولا أدوات للطبيخ، لذلك الأكل له مصدران فحسب في العادي، الأول هو أن تشتري من الكاڤيتريا ووجبة الغداء فقط وجبة بالكاد تكفي فردا أقل ثمن لها ٤٥ج، والمصدر التاني هو “الغذا أو الجراية” الذي تقوم إدارة السجن بتوزيعه، وهو عبارة عن ٣ أرغفة عيش للفرد يوميا وعلبة جبن أبيض في الأسبوع وكل يوم يتم توزيع نوع مختلف من الخضار مثل الطماطم أو الفلفل أو الخيار، كما يتم إحضار فول وبطاطس مهروسة مطبوخين وفي بعض الأيام حلة أرز وكلهم لمن يصل لها أولا يكون له نصيب فيها!
من تجربتي تعلمت أن أتوقف عن ذكر القانون في السجن، حتى رئيس المباحث كان يضيق حنقه جدا إذا ذكرت له لائحة السجن، لذلك لن أتحدث عن معنى الإيراد وسببه الرئيسي وهو التأكد من سلامة السجين الوارد صحيا وعدم احتضانه لأي أمراض لم تظهر أعراضها، أي أن الغرض الرئيسي منه أن يحمي حياة المساجين سواء القدامى أو الواردين. لكن الحقيقة الإيراد لن أصفه أفضل مما وصفته “الجزار” مجرمة المخدرات المخضرمة الأرملة المعيلة لأربعة أبناء وصفته مرة وهي تحرك يدها بحركات إباحية بجسدها الطويل المشدود وشعرها الناعم المجدول في ضفيرة طويلة أعلى رأسها وبشرتها الخمرية المصحوبة بحمرة وعيناها السوداوتان الغائرتان كانت تقول بجدية ويضحك من حولها “بناتها: لفظ يطلق على من تخدم في السجن أخرى بمقابل مادي سواء أكل أو سجائر” ويضحك معهن من تحاول التودد لها.
(هنا الإيراد يا -لفظ إباحي- يعني السجن، يعني ملكيش تمن، هنا تنسي حاجه اسمها حقي وكرامتي، حطيهم في الأمانات يا روح أمك مع هدومك الغالية برا ولو نسيتى ودخلتي بهم أحطهم لك أنا في -نفس اللفظ الإباحي-).