في أعقاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ووصول حركة طالبان السريع إلى الحكم، نظرت أغلبية الدوائر السياسية الغربية إلى الصين باعتبارها المستفيد الأكبر من هذه التغيرات. ودعم ذلك التفاهمات التي توصلت إليها بكين مع الحركة قبل اعتلائها كرسي الحكم. والإبقاء على سفارتها مفتوحة، بجانب التصريحات الإيجابية المتبادلة بين الطرفين، والمساعدات بقيمة 31 مليون دولار.
لكن نظرة أكثر عمقا على طبيعة الشراكة والتفاهم بين الصين وطالبان، تشي بأنها لن تكون مثالية مثلما يظهر في العلن. وأنها ستواجه عدة تحديات سياسية واقتصادية وإقليمية، تتبدى في عدم اعتراف الصين، حتى الآن، بالحركة كممثل شرعي عن الشعب الأفغاني.
ولفهم أكثر لطبيعة العلاقة بين الطرفين، فإنها قائمة على إدارة المخاوف الأمنية قبل اغتنام المكاسب الاقتصادية. أو بتعبير العديد من مراكز الأبحاث وصنع القرار الأمريكية: انتقل عبء إدارة الشأن الأمني والسيطرة على خريطة التوازنات الإقليمية من الولايات المتحدة إلى الصين والجيران الآخرين للأفغان.
ترتكز الأهداف الصينية في أفغانستان على محورين: الأول سياسي يتعلق بعدم كون طالبان حاضنة أو قاعدة انطلاق لجماعات الإيغور الجهادية من أراضيها صوب تركستان الشرقية. التي فرض فيها الحزب الشيوعي الصيني سيطرته، من خلال سياسات تطهير عرقي وهندسة اجتماعية.
والثاني اقتصادي يسعى للاستفادة من المعادن الأرضية، المقدرة بتريليونات الدولارات، في الصناعات التكنولوجية الصينية. إضافة إلى اعتبارها ممرا هاما نحو باكستان، في إطار استراتيجية “الحزام والطريق” الطموحة.
تشكك صيني
ومن هنا، يمكن رسم صورة موضحة للتطلعات الصينية، التي تدرك فيها أنها غير قادرة على ملء الفراغ الأمريكي بمفردها، بل ولا تسعى لذلك. إذ أن حسابات الربح والخسارة تشير إلى أن التكلفة أكبر من المكاسب المتوقعة.
يؤكد ذلك ما نشره أمين عام مركز أبحاث التعاون بين الصين وجنوب آسيا في معهد شنجهاي للدراسات الدولية الذي تديره الحكومة. من تشكك في قدرة طالبان على إدارة البلاد، في ظل ما وصفه بالتحديات الشديدة المتعلقة بالوحدة والقدرة على إنشاء حكومة شاملة.
وفي المقال الذي كتبه ليو تسونجيي، الأمين العام للمركز، قال: “في الوقت الحالي تختلف تصريحات طالبان كثيرا عن الماضي. لكننا لا نعرف السياسات المحددة التي سيتبنونها في المستقبل”، داعيا إلى تعاون وثيق مع باكستان “لإلزام الحركة الإرهابية بتنفيذ التزاماتها”.
وقد أشار الكاتب إلى أهمية المساعدات المالية الدولية، في ظل نقص الغذاء الذي قد يؤدي إلى كوارث إنسانية ولاجئين، “لكنهم في نفس الوقت يواجهون أيضًا الكراهية والحصار والعقوبات وحتى التخريب من قبل بعض القوى المعادية”.
تسونجيي يرى أن الاعتقاد الغربي -والهندي- السائد بأن استيلاء طالبان على الحكم هو نجاح للصين وباكستان. تفسير خاطئ يرجع إلى التفكير الجيوسياسي التنافسي، والتفكير بطريقة المحصلة الصفرية، التي يكون فيها مكسب طرف ما خسارة لطرف آخر.
وأضاف “لا تريد الصين أن تصبح أفغانستان مصدر اضطرابات إقليمية بسبب التدخل المفرط لبعض القوى الخارجية، مما يؤثر على أمن الممر. لذلك يجب على الصين وباكستان التنسيق مع روسيا وإيران ودول آسيا الوسطى. وعلى هذه الدول أن تحذر أوروبا من أزمة لاجئين محتملة، وأن تمارس الضغط على الولايات المتحدة والهند وبعض الدول الأوروبية لاتخاذ إجراءات مسؤولة لتقديم المساعدة الإنسانية”.
اقرأ أيضا: (كيف يمكن أن تمول طالبان حكومتها؟)
الصين والمخاوف الأمنية على رأس الأولويات
لكن “على الرغم من كل الصخب، فإن قادة الصين قلقون بشدة بشأن النظام الناشئ في أفغانستان. والذي يمكن أن يهدد استقرار المنطقة ويمكّن الإرهاب الجهادي من الانتشار إلى المناطق الغربية المضطربة في الصين. والتي تضم أعدادا كبيرة من المسلمين”.
كان هذا ما توصل إليه الثنائي جود بلانشيت وسيث جونز، الخبيران في الشأن الصيني. في مقالهما على مجلة “فورين أفيرز” بعنوان “معضلة الصين في أفغانستان“. والذي كان عنوانه الفرعي “ما هو سيء لواشنطن، ليس بالضرورة جيدا للصين”.
ويعتقد الكاتبان أن حالة عدم اليقين في أفغانستان “تفاقم مخاوف بكين طويلة الأمد بشأن الروابط المتطرفة العابرة للحدود بين أفغانستان وشينجيانج (تركستان الشرقية). المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي في غرب الصين حيث اعتقلت الحكومة أكثر من مليون مسلم من الإيغور بذريعة مكافحة الإرهاب. كما سيزيد من المخاوف بشأن الاستقرار الإقليمي”.
ويشير المقال إلى أن المخاطر المرتبطة بخروج الولايات المتحدة تفوق الفوائد المحتملة “إذا بدت الصين وكأنها تحتضن طالبان، فذلك لأنه لا خيار أمامها. تواجه بكين الآن دولة فاشلة في أفغانستان إلى الغرب، وتوترات متزايدة مع الهند في جنوب غربها. وشريك متقلب ومشاكس في كوريا الشمالية إلى الشمال الشرقي، وتصاعد المنافسة مع الولايات المتحدة -على الأخص في مضيق تايوان. تتوق حكومة شي جين بينج إلى الاستقرار والقدرة على التنبؤ، ولكن بعد انسحاب الولايات المتحدة، من المحتمل ألا تحصل على أي منهما”.
شينجيانج نقطة الانطلاق للصين في أفغانستان
يمثل أمن واستقرار شينجيانج نقطة الانطلاق لسياسة الصين تجاه أفغانستان، لذا كان ذلك محور التفاهمات التي دارت مع طالبان قبل وصولها للحكم. وتعهدت فيها الأخيرة بأنها لن تسمح لمنظمات مثل “حركة تركستان الشرقية” بأن تكون لها أي قواعد تدريب ومؤسسات للتمويل ومواقع للتجنيد في أفغانستان.
لكن طالبان قد لا تكون قادرة على ضمان ذلك في خضم انهيار وأزمة إنسانية، ويمكن لعلاقاتهم الوثيقة مع الجماعات الجهادية الأخرى أن يقلل من استعدادهم وقدرتهم على المحاولة. فيما يتركز تواجد المئات من “حركة تركستان الشرقية” في بدخشان، بحسب تقرير للأمم المتحدة، وهي مقاطعة نائية ستصعب تضاريسها الجبلية على الصين أو طالبان إجراء عمليات عسكرية.
وعلى الرغم من أن أجهزة الاستخبارات الصينية أصبحت أكثر تطورا وقدرة. إلا أن بكين ما زالت تفتقر إلى القدرات والشبكات على الأرض اللازمة للعمل بفعالية في أفغانستان، بحسب “فورين أفيرز”.
شو هونج شوي، الأستاذ في كلية قانون مكافحة الإرهاب بجامعة نورث ويست، لفت إلى أن طالبان تتمتع بعلاقات وثيقة مع منظمات متطرفة أخرى مثل “اللجنة الدولية لتركستان الشرقية”. و”منظمة تحرير تركستان الشرقية”، و”الجبهة الثورية المتحدة لتركستان الشرقية”. وأنه حتى لو قطعت طالبان صلتها بـ “حركة تركستان الشرقية”، فإنها لن تكون ضربة قاتلة للأخيرة.
وضرب شوي مثالا بباكستان، التي لم تدخر جهدا، بصفتها شريكا وثيقا للصين. في قمع “المنظمات الإرهابية”، مثل حركة تركستان الشرقية، لكنها لم تحل المشكلة بالكامل. لذلك، يبقى برأيه ما إذا كانت طالبان قادرة على الوفاء بالوعد، علامة استفهام.
الحذر من “الفخ”
وفقا لماس باوكوس، السفير الأمريكي السابق في الصين، فإن الأخيرة ستكون حذرة للغاية في تعاملها مع طالبان. ولن تحاول السيطرة على أفغانستان مثلما فعلت الولايات المتحدة، وإنما ستركز جهودها على حماية أمن الحدود.
ويذكر تقرير لشبكة “إن بي سي نيوز” الأمريكية أن بكين كانت متناقضة، خلال العقدين الماضيين. بشأن الوجود العسكري الأمريكي الضخم في أفغانستان إذ “كان وجود منافسها الاستراتيجي الرئيسي في الفناء الخلفي يمثل تحديات. لكن قادة الصين رأوا أيضا فائدة قمع الجماعات المتطرفة إلى حد كبير على طول حدودها الغربية”. إن تحمل الولايات المتحدة للعبء الأمني جعلها، من نواح كثيرة، “أهون الشرين لبكين”.
وأشار التقرير إلى أن الهجمات المروعة التي نفذها تنظيم داعش في خراسان في مطار كابول في 26 أغسطس. والتي أودت بحياة أكثر من 100 شخص، من بينهم 13 جنديا أمريكيا، قد كشفت بالفعل حدود سيطرة طالبان المطلقة على البلاد.
اقرأ أيضا: (وعود طالبان: فيما وراء الحنث)
أندرو سمول، الباحث في مؤسسة “جيرمان مارشال فاند” الفكرية، يظن أن الصين تخشى من الغوص في المستنقع الذي وقعت فيه الولايات المتحدة. ويقول: “إنهم يميلون إلى رؤية أفغانستان على أنها فخ، وسيكونون حذرين بشأن تولي دور بارز للغاية هناك. الصينيون يرون أن نجاح حركة إسلامية راديكالية في أفغانستان يمثل تهديدا بطبيعته”.
إن التدخل الصيني في أفغانستان تحركه المخاوف الأمنية في المقام الأول. ومن المفارقات أن هذه المخاوف ذاتها هي التي تدفع الصين إلى تعميق مشاركتها في أفغانستان وتمنعها من القيام بذلك في الوقت ذاته. بتعبير معهد الشرق الأوسط.
“الخطر بالنسبة لبكين هو أنه على الرغم من كل المأساة والإذلال الناتج عن الانسحاب. فإن الولايات المتحدة تنجح في النهاية في إعادة تركيز الاهتمام الاستراتيجي على التنافس معها”. بحسب جون ديلوري، أستاذ الدراسات الصينية في جامعة يونسي في سيول.
الأمن كمدخل للاقتصاد
قد تكون الصين أكثر ميلا لإعطاء أولوية أعلى لاحتواء التهديدات الأمنية المتصورة من أفغانستان قبل البدء في مشاريع التنمية الكبرى. إذ لم تتمكن خلال العقدين الماضيين من تقوية العلاقات الاقتصادية نتيجة الحرب، ما حرمها من الاستفادة من عدة عقود أبرمتها مع الحكومات السابقة.
في عام 2007 نالت شركتان صينيتان عقدا مشتركا لاستخراج النحاس من المحاجر في “ميس عيناك”. على بعد 30 ميلا جنوب شرق كابول. وبعد أربعة عشر عاما، لم يبدأ العمل في الموقع بعد.
وفي عام 2011، فازت شركة البترول الوطنية الصينية بحق تطوير حقل نفط في منطقة جيحون وعلى الرغم من أنها بدأت في إنتاج النفط هناك عام 2012. إلا أنها أوقفت عملياتها في العام التالي، قبل أن تخرج من المشروع.
وفي مايو 2016، وقعت الصين وأفغانستان مذكرة تفاهم تتعهدان فيها بالترويج المشترك للتعاون في إطار مبادرة الحزام والطريق. ولكن انقضى عام قبل أن تُدرج أفغانستان في خطط الصين لمبادرة الحزام والطريق، ثم كامتداد للممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
جعلت إدارة الرئيس السابق أشرف غني المشاركة مع مبادرة الحزام والطريق أولوية. وفقا لمعهد الشرق الأوسط، وأعرب المسؤولون الصينيون مرارا وتكرارا عن اهتمامهم بتوسيع الممر الاقتصادي في أفغانستان. ومع ذلك، لم يكن هناك استثمار صيني جديد وشيك وتم دعم معظم مشاريع شق الطرق وغيرها من مشاريع البنية التحتية. التي تشارك فيها الشركات الصينية، من خلال التمويل المؤسسي الدولي.
اقرأ أيضا: (ملامح وإشارات: بماذا تخبرنا حكومة طالبان الجديدة؟)
مساعدات إنسانية وتنموية
ويرجّح المعهد أن باكستان تُفضل أن تركز الصين اهتمامها ومواردها عليها. في الوقت الذي تشعر فيه الأخيرة ببعض القلق من تخلف إسلام أباد عن سداد ديون معينة متعلقة بالممر الاقتصادي. ما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت مساهمة باكستان والقروض ذات الصلة بالصين ستكون كافية لإكمال المشاريع الجارية. ناهيك عن جهود دمج أفغانستان فيها.
وعدت بكين -وتتوقع طالبان- بمبالغ كبيرة من المساعدات الإنسانية والتنموية. وفي سبتمبر الماضي. قال المتحدث باسم طالبان، ذبيح الله مجاهد: “الصين هي أهم شريك لنا وتمثل فرصة أساسية وغير عادية لنا لأنها مستعدة للاستثمار وإعادة بناء بلدنا”. ومع ذلك، وبالنظر إلى الحالة المتراجعة للاقتصاد الصيني مؤخرا، فإنها ربما لن تدعم أفغانستان بالصورة المتخيلة.
لا يمكن للاستثمارات الكبرى أن تنجح حتى تتمتع الدولة بحكم مستقر، لكن الحكم المستقر لا يمكن أن يظهر حتى تتلقى البلاد المزيد من الاستثمارات. تفسر هذه المعضلة السبب وراء تواصل وزير الخارجية الصيني وانج يي، مع نظيره الأمريكي أنتوني بلينكين مؤخرًا. وإخباره أن الولايات المتحدة يجب أن تعمل مع المجتمع الدولي لتقديم المساعدات لأفغانستان.
“حتى في البلدان المستقرة، غالبا ما لا يتم الانتهاء من العديد من المشاريع الصينية التي تم الإعلان عنها. بما في ذلك من خلال مبادرة الحزام والطريق، لذا فمن غير المرجح أن تصبح الصين على الفور قوة استثمارية في أفغانستان”، وفق تحليل “مجلس العلاقات الخارجية“.
ببساطة، قد يؤدي خروج الولايات المتحدة من أفغانستان إلى إعاقة بكين في اللحظة التي تحتاج فيها إلى التركيز على المنافسة المتصاعدة في مناطق أخرى. أو “شهر العسل الصيني في أفغانستان، ما بعد الانسحاب الأمريكي، قد ينتهي قبل أن يبدأ”، بحسب ما تقول “فورين أفيرز”.