ظننت أنني السبب وحاولت الانتحار للتخلص من جرمي”، بهذه العبارة وصفت إحدى ضحايا التحرش الحالة التي ظلت عليها لأكثر من عامين، بعد تعرضها للصدمة تأثرًا بمحاولة أحد الشباب لمس جسدها قائلًا: “جسمك زي البقرة”.

الفتاة العشرينية انتابتها حالة من البكاء، وعادت إلى منزلها لتقطع شرايين يدها، محاولة التخلص من الجسد الذي أثار مطامع الشاب في طريق سيرها، وظلت كارهة لجسدها طوال فترة مثولها للعلاج النفسي، وكثيرًا ماكنت تصرخ في نومها “أيوة بكره جسمى هو السبب أيوة أنا السبب”.

الكثيرات من ضحايا التحرش، يلقين باللوم على أنفسهن، خاصة مع تداول عبارات من عينة “لبسها مستفز، جسمها مثير، وصولها لـ خجلها السبب، ابتسامتها شجعت، شكلها كان ضعيف”، وهو ما عاد بالثقل النفسي عليهن وظل التساؤل عالقًا “هل هناك مواصفات تجعل الفتاة مطمعًا للمتحرش”؟، وفي حال وجود أسباب كيف يمكن لتلك الفتاة التعافي من صدمة ما بعد التحرش؟.

“نفسية” المتحرش

المتحرش أحد 4 فئات عمرية وكل مرحلة عمرية يختلف أسلوب التعامل معها عن الأخرى، كما يختلف رد فعل الضحية وأسلوب تلقيها للصدمة تأثرًا بتلك المراحل العمرية.

جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، يؤكد “أن هناك فئات عمرية ومواصفات للمتحرش ترتبط بفئته العمرية، فهناك من هم دون الـ 15 عامًا، وهى فئة لا تمتلك أي درجة من النضج وهم فقط يقلدون الكبار دون وجود رغبة حقيقية تجاه الأنثى أو وعي كامل بما يقومون به، وهناك فئة عمرية من 15 لـ 40 عامًا وهو المصنف بالسيكوباتى وهذا المتحرش فاقد للشعور لا يمتلك إحساسًا بالضحية، وقد يقوم بأفعال إجرامية كاملة نتيجة وجود عداء داخلي ونفور من المجتمع، وهذه الفئة تُصنف تحت الشخصية المضطربة، وهناك من هم في سن الـ 40 لـ 60 عامًا وقطاع كبير منهم يحتاج إلى إجراء فحوصات وكشف طبي دقيق، لأن هناك احتمالية وجود خلل ما في أحد وظائف وأجهزة الجسم، وفوق سن الـ 60 عادة ما يكون المتحرش تحت تأثير الزهايمر نظرًا لفقد الكثير من الرغبات النفسية والجنسية في هذه المرحلة العمرية”.

ويضيف “فرويز” أن “معرفة التكوين النفسي للمتحرش هام جدًا في تحديد طريقة التعامل معه، فهو شخص عادة ما يتملكه الجبن والقلق طوال الوقت، ويغلب عليه التوتر والارتباك خاصة في وقت التعرض لضحيته، ويعد أقوى رادع له الشعور بقوة الطرف الآخر وجرأته على التصدي له، ويعد ذلك هو العلاج الأمثل لتفادى التحرش بشكل عام”.

هل هناك مواصفات معينة للضحية؟

الدكتور أحمد حسين أخصائي الأمراض النفسية والعصبية في مستشفى العباسية للصحة النفسية، يؤكد “أنه لا توجد أي صفات للضحية، فالمتحرش مجرم لا يبحث عن صفات بعينها، وأقوى ما يدعم هذا الأمر حالات التحرش المطروحة على الساحة، فلم تترك الصغار أو الكبار والمنتقبات والمحجبات ومن لا ترتدى حجابًا، فالجميع يتعرض للتحرش بنسب مختلفة ولم يسلم أحد منه”، مؤكدًا أن المتحرش مجرم وليس مريضًا نفسيًا.

ويضيف “حسين” أن “الناجيات من التحرش بعد الصدمة يحتجن إلى توعيتهن بالتوجه إلى طبيب نفسي لتدارك الأمر، لأن الكثير من هذه الصدمات تكون له آثار بعيدة الأمد على الضحية وعلاقة الضحية بالأسرة هامة جدًا، لما لها من دور كبير في احتوائها وتقليل حدة الآثار الجانبية للصدمة عليها”.

ويقول “إن ضحية التحرش قد تتحول إلى شخصية سيكوباتية معادية للمجتمع ومضطربة، وهو الأمر الذي قد ينتج عنه جرائم لا طاقة للمجتمع بها، لمجرد محاولة الانتقام أو التخلص من آثار الصدمة، لذلك فالرجوع إلى طبيب نفسي أمر هام للتعافي مما بعد الصدمة”.

 الضعف والخجل

إلا أن جمال فرويز استشاري الطب النفسي، يرى أن هناك بالفعل ملامح قد تساهم بقدر كبير في إتاحة الفرصة للتحرش، خاصة في أماكن العمل، ويأتي على رأسها الضعف والخجل، مؤكدًا أن المتحرش “جبان” ويقلق عادة من ضحيته التي يختارها، خاصة إذا كان الأمر ليس محض الصدفة كما يحدث في الشارع، فالضحية قد يتملكها الخجل الذي يجعل المتحرش أكثر جرأة على القيام بفعلته.

ويضيف “في أماكن العمل الزميل أو المدير يلقي بالكلمات التي تحمل أكثر من معنى، ليجعل ضحيته تفهم كيفما شاءت، ويظل على هذا النحو في رمي شباكه، وفي مثل هذه الحالات تكون الضحية هي الأضعف من بين الجميع ليتمكن من التحرش بها، وكلما زادت قوة المرأة وجرأتها تراجع المتحرش ووضع خططًا بديلة، وربما يصرف نظره تمامًا عنها،”، مؤكدا أن الشيء ذاته لا ينطبق على حالات التحرش الأخرى العابرة، والتي لا يحتاج فيها المتحرش إلى وقت لدراسة ضحيته واختيارها.

كما يشير “فرويز” إلى “أن للبيئة دور كبير في تفشي الأعمال المخلة إجمالًا، فكلما كانت البيئة منغلقة، كثرت فيها حالات التحرش والعنف بشكل عام، وهو ما كان يحدث في أوروبا نفسها قبل انفتاحها، وتعد الجزيرة العربية هي الأولى من حيث أعمال العنف والجنس والاغتصاب لأن مجتمعاتها لازالت منغلقة، والأمر نفسه يمكن تطبيقه على مصر فبها الكثير من القرى المنغلقة والتي تعتبر أرضًا خصبة للتحرش والاغتصاب”.

 قصص من الواقع

“فرويز” روى عددًا من قصص التحرش لفتيات قدمن إليه من أجل العلاج والتعافي ما بعد صدمة التحرش.

“جسمي كان السبب”

“قالي يا بقرة وجسمي كان السبب”، كانت هذه الشكوى التي جعلت شابة 21 عامًا تُقدم على قطع شرايين يدها للتخلص من الجسد “المستفز” والذي جعل المتحرش يقبل على الإمساك به.

الفتاة أقبلت على الطبيب بمعاونة أسرتها لتروي أنها منذ لحظة التحرش بها قررت ترك الحياة لأنها كانت السبب قائلة: “جسمي استفزه ولبسي.. هو قالي كدة.. أنا السبب”، وظلت على هذه الحال محاولة التخلص من هذا الجسد وخضعت للعلاج لإقناعها أنها لم تكن السبب فيما حدث لها.

وأكد الطبيب المعالج أن هذه الحالة ظلت تقوم بإجراء عمليات جراحية على مدار عامين للتخلص من وزنها الزائد الذي كانت تعتبره سببًا في التحرش بها.

“كلام يحمل أكثر من معنى”

فيما روت فتاة ثلاثينية قصتها، حيث لجأت للطبيب كي تتعافى من الاكتئاب وبعد عدد من الجلسات المتتالية اكتشف الطبيب السبب، وهو تحرش رئيسها في العمل بها واضطرارها للتغاضي عن أفعاله قائلة: “بيقولى كلام بيحمل أكتر من معنى بس انا عارفة انه بيتحرش بيا ومحتاجة الشغل”.

واستطردت الفتاة “ظننت كثيرًا قبل التعافي أنى كنت وراء أفعاله ربما بصمتي أو محاولة تجاوز تلميحاته”.

“قتلت الخوف بداخلي”

“قتلت الخوف بداخلي وبعدها تعافيت تمامًا”، إحدى ضحايا التحرش والتي ظلت لنحو 3 أعوام تؤكد أنها كانت السبب الذي دفع أكثر من شخص للتحرش بها، وكانت تردد دائما “أكيد أنا السبب هو مفيش ست غيري علشان كلهم يتحرشوا بيا”.

وظلت تعاني على مدار فترة معتقدة أنها السبب، إلى أن قررت الخضوع للعلاج خاصة بعد ملاحظتها تغير سلوكها فقد أصبحت أميل للعدوانية والعنف غير المبرر.

الناجية أكدت أنها تمكنت بمساعدة طبيبها من “التخلص من مخاوفها” وأصبحت أكثر قوة في مواجهة أي حالة تحرش تتعرض لها ولم تكتف فقط بسلوكها الجديد والذي نتج عنه اختفاء المتحرشين من محيطها ولكنها أيضًا اتصلت بكل من ساهم في إيذائها قائلة: “اتصلت بيهم وقلتلهم انتوا مجرمين واى حد هيقرب منى تانى هفضحه”.

وعبرت عن وضعها الحالي بكلمة مدموجة بابتسامة “تعافيت“.

  دراسة حكومية 

أكدت دراسة حكومية، اشترك في إعدادها هيئة الأمم المتحدة للمرأة والمركز الديموجرافي بالقاهرة، ومعهد التخطيط القومي ومدن آمنة حملت عنوان “طرق وأساليب القضاء على التحرش الجنسي في مصر”، أن 67.1% من المبحوثات ذكرن أن كل البنات تعرضن للتحرش بغض النظر عن “ملبسها أو شكلها أو كلامها أو مشيتها”.

كما أن هناك نحو 29.9% من المبحوثات أجبن بنعم على السؤال موضع البحث “هل هناك بنات معينة تتعرض للتحرش أكثر من غيرها؟”.

ورغم النسبة السابق عرضها في الإجابة عن السؤال موضع الدراسة، إلا أنه عند السؤال عن سن “المتحرش بها وحالتها الزواجية، وانتمائها لأسرة فقيرة أو غنية” كانت الإجابات الأكثر والتي استحوذت على نسبة عالية أن كل الفتيات بغض النظر عن خصائصهن يتعرضن للتحرش.

وعند السؤال عن أكثر الأعمار “المتحرش بها”، أجابت 57.9% من العينة موضع الدراسة بأن كل الأعمار تتعرض للتحرش، وعند السؤال عن نوع لبس الفتاة الأكثر تعرضًا للتحرش أجابت “72.4%” أن كل الفتيات بغض النظر عن لبسهن يتعرضن للتحرش، وعند السؤال عن الطبقات الاجتماعية الأكثر تعرضًا للتحرش أجابت “87.7” بأن كل الطبقات تتعرض للتحرش.

 

جدير بالذكر أن الدراسة اعتمدت على توزيع عيناتها في المحافظات طبقًا لعدد السكان في كل محافظة في الفئة العمرية من “10 لـ 35 عامًا” وهي الشريحة المختارة لدراسة التحرش الجنسي لها، وتم اختيار النسبة من الجنسين “ثلثين إناث وثلث ذكور.