في عام 2011، نزل المواطنون في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى الشوارع. كانوا يطالبون بحكومات ديمقراطية أكثر تمثيلًا وعدالة اجتماعية وإصلاحات اقتصادية. وفي مصر وتونس، أطاحت الحركات الاحتجاجية بالديكتاتوريين الذين حكموا لعقود. وقد تعرضت الأنظمة الاستبدادية في أماكن أخرى من المنطقة للهلع، كما لم يحدث من قبل. استحوذ الربيع العربي على خيال جميع أنحاء العالم وتحدى الافتراضات الراسخة حول الثقافة السياسية في المنطقة.

لكن في غضون بضع سنوات فقط، تلاشى الأمل في الغالب. إذ عاد النظام القديم لفرض سيطرته. حتى أنه أصبح أكثر قمعًا من ذي قبل في بعض الأماكن، كما ترى الدكتورة أماني جمال الأستاذة بجامعة برينستون الأمريكية، في مقال جديد بمجلة “فورين أفيرز“.

رغم ذلك، فإن هذه النتيجة لم تحسم المسألة الأساسية المتعلقة بمستقبل الديمقراطية في الشرق الأوسط.

الحقيقة تقول إن حركات الاحتجاج والحكومات الديمقراطية الوليدة فشلت في نهاية المطاف في إنهاء حقبة طويلة من الحكم الاستبدادي. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الرغبة في التغيير الديمقراطي قد تبددت. فحتى عندما أعاد المستبدون تأكيد سيطرتهم في السنوات التي أعقبت الربيع العربي مباشرة، استمر العديد من المحللين في تصور أن الثورات قد أطلقت العنان لتطلعات لترتيبات اقتصادية وسياسية جديدة. ما يشير إلى فجر حقبة أكثر شمولًا. ووفقًا لهذا الرأي، كان قوس التاريخ في الشرق الأوسط طويلًا بالفعل. لكنه مع ذلك كان يميل نحو الديمقراطية، كما تشير أستاذة جامعة برينستون.

كيف كان الناس في الشرق الأوسط ينظرون إلى الديمقراطية؟

تقول “جمال” إنه بعد ما يزيد قليلًا عن عقد من الزمان على الانتفاضات الأولية، هناك أسباب أقل للتفاؤل. إذ لم يقتصر الأمر على قيام السلطويين بتعزيز حكمهم فحسب. بل والأهم من ذلك، تغيرت المواقف تجاه الديمقراطية والحقوق السياسية بشكل كبير.

في وقت الثورات، اعتقد معظم المواطنين في جميع أنحاء المنطقة أن الديمقراطية هي أفضل نظام سياسي.

يقول استطلاع أجرته شبكة أبحاث الباروميتر العربي في 2010-2011، إن أكثر من 70% من المشاركين في 8 من أصل 10 دول عبروا عن إيمانهم بالديمقراطية كأفضل نظام سياسي. لكن بحلول 2018-2019، انخفض الدعم في 7 من أصل 12 دولة شملها الاستطلاع. في هذا التوقيت كان 70% على الأقل من المشاركين يرغبون في الديمقراطية.

لماذا تلاشى حماس العالم العربي للديمقراطية؟

تقول الدكتورة أماني جمال إنه لفهم سبب تلاشي حماسة العالم العربي للديمقراطية، من الضروري أن ندرك أن معظم الناس الذين خرجوا إلى الشوارع في عام 2011 كانوا مدفوعين ليس فقط بالرغبة في الحرية. ولكن أيضًا بسبب الإحباط الشديد من ظروفهم المادية. إذ كان “الخبز والحرية والعدالة” شعار الاحتجاج الذي سُمع كثيرًا في القاهرة خلال أحداث ثورة يناير. وهناك سبب وراء احتلال الخبز المرتبة الأولى على القائمة.

كان المصريون والتونسيون يرون أن الاعتبارات الاقتصادية هي السبب الرئيسي لثورات الربيع العربي في بلادهم. ووفقًا لاستطلاعات الباروميتر العربي التي أجريت في كلا البلدين في عام 2011. سئم المتظاهرون من القمع السياسي. لكنهم كانوا غاضبين للغاية من الفرص الضئيلة التي توفرها الأنظمة الاستبدادية.

لكن ورغم ذلك، فشل الازدهار القصير للمشاعر والحركات المؤيدة للديمقراطية في إنتاج حكومات ديمقراطية دائمة. كما فشل في إنتاج التغيير الاقتصادي الذي يتوق إليه الناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط بشدة.

تستعرض الدكتورة أماني حال المنطقة اليوم. فتقول إنها تعاني من نفس القضايا التي أعاقت تنميتها الاقتصادية لعقود من الزمن: ارتفاع معدلات البطالة، وخاصة بين الشباب – انخفاض معدلات المشاركة في القوى العاملة، وخاصة بين النساء – نقص التعليم عالي الجودة – زيادة عدم المساواة وتفشي الفساد.

ولقد زادت جائحة كورونا COVID-19 الأمور سوءًا. ما أدى -ليس فقط- إلى المرض والوفاة، بل إلى انهيار أسعار النفط، وانخفاض كبير في السياحة. فضلًا عن تراجع شامل في النشاط الاقتصادي بجميع أنواعه.

وقد قدر صندوق النقد الدولي أن معدل النمو السنوي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2020 كان -4.7%.

التحسن الاقتصادي لا الحرية.. روسيا والصين الأكثر جاذبية للعرب

تقول أستاذة جامعة برينستون إن كل هذه الضغوط والمصاعب قد تدفع ببعض المراقبين إلى توقع انفجار آخر للاحتجاجات ودعوات للتغيير. ذلك كما حدث في عام 2019، عندما أُطيح بالديكتاتوريين القدامى في الجزائر والسودان، وأجبرت الاحتجاجات على تغيير الحكومة في العراق ولبنان. لكن، لا يمكن القياس على أحداث 2019. إذ كانت الحركات التي تقف وراء هذه التطورات -إلى حد كبير- تدعو إلى إدارة اقتصادية أفضل بدلًا من الديمقراطية في حد ذاتها.

ويبدو أن شعوب العالم العربي قد استوعبت درسًا واحدًا قبل كل شيء من ثورات العقد الماضي. “أن التغيير الديمقراطي لا ينتج بالضرورة تحسنًا اقتصاديًا”. وفق الدكتورة أماني جمال، يميل الناس في البلدان الأكثر استبدادية في جميع أنحاء المنطقة إلى النظر إلى أوضاعهم الاقتصادية في ضوء أكثر ملاءمة بشكل ملحوظ.

قد يكون أيضًا مما ساعد في تلاشي الديمقراطي ودعمها بين شعوب الشرق الأوسط، تراجع الولايات المتحدة عن المنطقة بطرق أثارت الشكوك حول دعمها لأولئك الذين يعارضون الأنظمة القمعية. فعلى الرغم من أن واشنطن رفضت في عام 2011 تقديم دعم قوي للرئيس الأسبق حسني مبارك، الحليف القديم لها. إلا أنها رفضت أيضًا مواجهة أحداث العام 2013 في مصر. كما أن الولايات المتحدة لم تضاهي مدحها الخطابي لمعارضة الرئيس السوري الأوتوقراطي بشار الأسد بدعم حقيقي.

ومع تضاؤل ​​نفوذ الولايات المتحدة وركود الاقتصادات الإقليمية، أصبح نموذج الاقتصاد والتنمية الصيني، وبدرجة أقل، النموذج الروسي أكثر جاذبية للعديد من العرب. لا سيما على النقيض من القيود المتصورة للنيوليبرالية الغربية.

يبدو أن النظامين الصيني والروسي، على الأقل كما يرى كثيرون في الشرق الأوسط، يتجنبان الاضطراب السياسي للديمقراطية ويقدمان وعودًا بالاستقرار والنمو الاقتصادي. قد يكون لهذا التحول في المفاهيم تداعيات معقدة ومضادة للحدس إلى حد ما بالنسبة لمستقبل التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط.

يميل الناس -حتى في البلدان التي تميل نحو الديمقراطية- إلى رؤية الصين وروسيا باعتبارهما شريكين اقتصاديين أكثر فائدة من الولايات المتحدة.

هل نفذت الديمقراطية؟

ترى أستاذة جامعة برينستون أنه للحصول على فكرة أكثر تفصيلًا عن هذه الاتجاهات في الشرق الأوسط، من المفيد النظر في مجموعتين من البلدان التي أجرى فيها الباروميتر العربي مسوحات منتظمة خلال العقد الماضي:

المجموعة الأولى:

ثلاث دول “ذات ميول استبدادية”: مصر والمغرب والأردن. تقول مسوحات الباروميتر العربي إنها اتبعت مسارًا مشابهًا منذ الربيع العربي. إذ لم تتحقق التغييرات الرئيسية التي سعى إليها المتظاهرون في عام 2011 بشكل كامل في ثلاثتها. بينما والأنظمة التي حكمت قبل الثورات لا تزال قائمة إلى حد ما اليوم. وقد ظل النمو الاقتصادي ضعيفًا نسبيًا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الافتقار إلى أهمية الإصلاحات.

وفي مصر، أدت الاحتجاجات الحاشدة في أوائل عام 2011 إلى سقوط مبارك. ثم تلتها انتخابات انتصر فيها مرشح موال للإخوان. غير أن أحداث 2013 عقب ذلك أوقف التجربة الديمقراطية. كما أعاد النظام القديم تأكيد نفسه بتقليص الحقوق السياسية. إلا أن أيضًا النمو الاقتصادي زاد بعد أن ظل ثابتًا في الغالب خلال المرحلة الديمقراطية القصيرة في مصر.

وهناك في المغرب، أدت الاحتجاجات الصغيرة في عام 2011 إلى إصلاحات دستورية. لكن التغييرات لم تغير النظام الملكي بشكل كبير. إذ حافظ الملك محمد السادس على الغالبية العظمى من السلطة. وقد انخفض متوسط ​​معدلات النمو الاقتصادي تدريجيًا خلال العقد الماضي. ثم انخفض بشكل حاد منذ ظهور الوباء.

بينما شهد الأردن احتجاجات متواضعة في عام 2011، وهناك أيضًا دعم النظام الملكي إصلاحًا دستوريًا محدودًا. بينما في السنوات التي تلت ذلك، أجرى الملك عبد الله الثاني مزيدًا من الإصلاحات الدستورية. وذلك في جزء كبير منه استجابةً للإحباط المتزايد بشأن الركود الاقتصادي والأضرار التي سببها فيروس كورونا. لكن النظام الملكي لا يزال مسيطرًا بقوة.

المجموعة الثانية:

وهي دول ذات ميول ديمقراطية، تشمل العراق ولبنان وتونس. إذ أن هذه البلدان الثلاثة التي شملها استطلاع الباروميتر العربي كانت الانتخابات فيها ذات مغزى أكبر. لكن حكوماتها المنتخبة فشلت في معالجة المشاكل الاقتصادية الكبرى.

ففي أعقاب الغزو والاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، طور العراق نظامًا سياسيًا ليس ديمقراطيًا بالكامل. ولكن السلطة فيه تتغير بانتظام من خلال الانتخابات. بينما كان النمو الاقتصادي متقلبًا. ويرجع ذلك في الغالب إلى تقلب أسعار النفط. وإن كان حتى في ظل أسعار النفط المرتفعة، يظل الفساد المستشري معوقًا لتدفق أرباحه إلى العراقيين العاديين.

لبنان أيضًا كان بعيدًا عن الديمقراطية الكاملة. لكن نظام الحكم الذي انبثق عن اتفاق الطائف عام 1989 أدى إلى انتخابات منتظمة نسبيًا تتنافس فيها أحزاب متعددة.

وعلى الرغم من كون نظام تقاسم المناصب الحكومية العليا بين الطوائف الرئيسية في لبنان معقد للغاية، إلا أن الانتخابات في العقود الأخيرة سمحت بتغيير ميزان القوى السياسية. وإن كان الفساد المستشري أيضًا وفشل النخبة السياسية في معالجة التحديات الاقتصادية الطويلة الأمد أدى إلى أزمة شاملة في أواخر عام 2019. وقد بلغت ذروتها في تخلف البلاد عن سداد ديونها في عام 2020.

من بين جميع البلدان التي شملها استطلاع الباروميتر العربي، فإن تونس -على الرغم من التحول الاستبدادي الأخير للرئيس قيس سعيد- هي الأقرب إلى الظهور كديمقراطية كاملة. ذلك مع انتخابات منتظمة تتنافس فيها الأحزاب بحرية على السلطة الفعلية.

ومع ذلك، فقد انخفض دخل الفرد هناك في العقد الماضي. ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى فشل الحكومات المتعاقبة في معالجة تركة المشاكل الاقتصادية الموروثة من النظام السابق بشكل هادف.

الكفر بالديمقراطية

وفق الباروميتر العربي، فإنه بمقارنة هاتين المجموعتين من البلدان، يظهر تناقض صارخ في آراء المواطنين بشأن اقتصاد دولهم. إذ يميل الناس في الدول الثلاث ذات الميول الاستبدادية إلى امتلاك نظرة اقتصادية أكثر إيجابية بكثير من تلك الموجودة في الدول الثلاث ذات الميول الديمقراطية.

ففي مصر، صنف 41% من المواطنين -الذين شملهم الاستطلاع- اقتصادهم بأنه جيد أو جيد جدًا في 2018-2019. وفي المغرب، شارك 36% هذا التقييم. بينما في الأردن، كانت النسبة 23%. وبالمقارنة مع الدول الغنية والمتقدمة، وحتى تلك الموجودة في أماكن أخرى في الشرق الأوسط، فإن هذه الأرقام منخفضة جدًا.

على سبيل المثال، في الكويت رأى 77% من المواطنين -الذين شملهم الاستطلاع- أن اقتصادهم جيد أو جيد جدًا في عام 2019. لكن مستويات الرضا العام عن الظروف الاقتصادية في مصر والمغرب والأردن كانت أعلى بشكل عام مما كانت عليه في العراق (21%)، لبنان (14%)،

تكرر هذا النمط عندما طُلب من المستجيبين تقييم أداء حكومتهم في خلق الوظائف. اتفق 22% من المستطلعين في مصر، و20% في المغرب، و14% في الأردن على أن حكوماتهم تقوم بعمل جيد فيما يتعلق بالتوظيف.

وقد كانت هذه الأرقام منخفضة للغاية في البلدان الأكثر ثراء. ففي الكويت، أيد أكثر من نصف المستجيبين هذا الرأي. ومع ذلك، فإنهم يتألقون مقارنة بتقييمات خلق الوظائف في البلدان الثلاثة ذات الميول الديمقراطية: 17% فقط من التونسيين، و6% من العراقيين، و4% من اللبنانيين أعطوا حكومتهم تقييمًا إيجابيًا بشأن خلق الوظائف.

أصبح الكثيرون في البلدان ذات الميول الديمقراطية يعتقدون أن النظام الديمقراطي نفسه، على الأقل كما يعمل في بلدهم، هو المشكلة.

في لبنان، وفقًا لمسح أجرته مؤسسة كونراد أديناور عام 2020، وافق 55% من المستجيبين على هذا البيان: “يجب على بلدنا إلغاء الانتخابات وأن يكون لدينا خبراء يحكمون”. وفي تونس، وافق 45%. في البلدان الثلاثة، ترسخ الشعور باليأس من المستقبل، خاصة بين الشباب.

في استطلاع المؤسسة، قال 53% من اللبنانيين الذين شملهم الاستطلاع الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا إنهم فكروا في مغادرة بلدهم. كما فعل 47% من المستجيبين التونسيين في تلك المجموعة.

حتى تونس…

من بين البلدان الثلاثة ذات الميول الديمقراطية، ربما تقدم تونس المثال الأكثر وضوحًا على كيف أدت الصعوبات الاقتصادية المستمرة إلى توتر الناس بشأن الديمقراطية. فخلال العقد الماضي، غالبًا ما تم اعتبار البلاد أعظم أمل للديمقراطية في الشرق الأوسط.

اقترح المحللون أنه من بين جميع البلدان في المنطقة، كان لدى تونس أفضل أساس للنجاح. فهم شعب متجانس عرقيًا ومتعلم جيدًا نسبيًا. كما أن الطبقة الوسطى هناك كبيرة نسبيًا. وكذلك كان الجيش غير سياسي بشكل عام.

لكن الاقتتال الداخلي المستمر داخل نداء تونس والتنافس مع حزب النهضة الإسلامي أدى إلى ضعف الحكومات. ففي الانتخابات الرئاسية لعام 2019، هزم قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري الذي كان مغمورًا في السابق، نبيل القروي زعيم الأعمال الشعبوي. وكان كلا المرشحين من الخارج تمامًا، ما يشير إلى رفض واسع للنخبة السياسية من قبل المواطنين العاديين.

بعد ذلك وفي العام الماضي على وجه التحديد، حلّ سعيد البرلمان، مدعيًا أن الأزمة الاقتصادية جعلت مثل هذه الخطوة ضرورية لينهي التجربة الديمقراطية مع قدر كبير من الدعم الشعبي. ذلك كما هو الحال في مصر في عام 2013. في الحالتين فقد غالبية المواطنين الثقة في عملية التغيير التي أتى بها الربيع العربي.

واجه سعيد معارضة قليلة نسبيًا لأن الانتقال الديمقراطي في تونس فشل في تحقيق فوائد اقتصادية ملموسة وحلول لشعبها. واليوم، اقتصاد البلاد في حالة أسوأ مما كان عليه قبل الربيع العربي.

كيف تحول التونسيون؟

خلص العديد من التونسيين إلى أن جذور المشكلة تكمن في النظام ذاته الذي حاربوا من أجله بعد الإطاحة ببن علي.

ففي عام 2011، عندما سُئل عما إذا كانت الأنظمة الديمقراطية غير حاسمة ومليئة بالمشاكل، وافق 19% فقط من التونسيين. بينما بحلول عام 2018، كان هذا الرقم 51%. وفي عام 2011، وافق 17% من المستجيبين التونسيين على عبارة “الأداء الاقتصادي ضعيف في الأنظمة الديمقراطية”. لكن بحلول عام 2018، زادت هذه النسبة بأكثر من الضعف، لتصل إلى 39%.

كان هذا الاتجاه واضحًا بشكل خاص بين الشباب التونسي، الذين بلغوا سن الرشد أثناء الانتقال الديمقراطي. وليس من الصعب معرفة السبب. فبحسب الخبير الاقتصادي التونسي منجي بوغزالا “تبلغ نسبة العاطلين عن العمل (في تونس) الذين تقل أعمارهم عن 35 عامًا 85%. وكلما ارتفع مستوى التحصيل العلمي، ارتفع معدل البطالة: 40% من العاطلين عن العمل يحملون شهادات جامعية”.

الكرامة الاقتصادية.. ولا شيء آخر

تقول الدكتورة أماني جمال إن ما يظهر بوضوح من نتائج الباروميتر العربي هو رسالة صارخة: العرب العاديون يريدون الكرامة الاقتصادية ويبحثون بشدة عن نظام حكم يمكن أن يقدمها. ولأن الديمقراطية فشلت في تحقيق النتائج الاقتصادية بالشرق الأوسط، فإن العديد من العرب العاديين -بمن فيهم بعض الذين كانوا يأملون في الديمقراطية قبل عقد من الزمن- يبدون الآن أكثر انفتاحًا على النماذج الاستبدادية التي قدمتها الصين وروسيا.

فمنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، انتشل النظام الصيني أكثر من 800 مليون شخص من براثن الفقر المدقع، وفقًا للبنك الدولي. وهو مجرد نوع من التحول الاقتصادي الذي يسعى الكثيرون في جميع أنحاء الشرق الأوسط بشدة إلى تحقيقه. في الصين، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 2194 دولارًا في عام 2000 ووصل إلى 10431 دولارًا في عام 2020. تضاعف الناتج المحلي الإجمالي للفرد في روسيا أربع مرات تقريبًا خلال تلك السنوات العشرين. وذلك من حوالي 7000 دولار إلى حوالي 28000 دولار.

مع تركيز الولايات المتحدة بشكل أقل على الشرق الأوسط، تدخلت الصين وروسيا من خلال مبادرة الحزام والطريق. وقد وقعت بكين اتفاقيات تعاون اقتصادي مع العديد من الحكومات العربية.

وفق الباحث تشارلز دن، فإن “الصين باتت أكبر مستثمر أجنبي في المنطقة في عام 2016”. ومنذ افتتاح مبادرة الحزام والطريق، ضخت بكين ما لا يقل عن 123 مليار دولار في الشرق الأوسط. ذلك في تمويل المشاريع المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق.

لم تقدم روسيا نفس النوع من المساعدات الاقتصادية. لكنها لعبت دورًا عسكريًا نشطًا. فمن خلال التدخل لدعم حلفائها في ليبيا وسوريا، أشارت موسكو إلى إعادة مشاركتها مع المنطقة بعد عقود من الانكماش في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي.

ليس من المستغرب إذن أن يميل العديد من العرب إلى الرغبة في أن تقيم حكومتهم علاقات اقتصادية أقوى مع بكين وموسكو. هم يريدون ذلك -وفق ما توصل إليه الباروميتر العربي- حتى لو كان ذلك يعني تقليص الروابط الاقتصادية لبلادهم مع الولايات المتحدة.

هو فشل للجهات الدولية في حل مشاكل الشرق الأوسط

مع استمرار انتشار الديمقراطية والتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط، يلقي العديد من المحللين والمحللين باللوم على ما يرون أنه عيوب في الثقافة السياسية العربية، والتي يعتبرها البعض غير ملائمة بشكل فريد للديمقراطية. تقول الدكتورة أماني جمال إن هذا الرأي خاطئ. ليس فقط لأنه يبرئ الجهات الخارجية التي تدعم الحكام الاستبداديين في الشرق الأوسط لتعزيز مصالحهم الخاصة. ولكن أيضًا لأنه يتجاهل دور الركود الاقتصادي في قلب العديد من العرب العاديين ضد فكرة التغيير الديمقراطي.

ولا يعكس التراجع الحاد في الاهتمام والإيمان بالديمقراطية في السنوات الأخيرة فشل الأنظمة السياسية العربية في إدراك قيمة الحرية. بل بالأحرى، فشل الجهات الدولية والإقليمية والمحلية في حل المشاكل الاقتصادية العميقة الجذور في المنطقة.

ولإبطاء تقدم الاستبداد وإعطاء المثل الديمقراطية والليبرالية فرصة أخرى في الشرق الأوسط، تنصح أستاذة جامعة برينستون الولايات المتحدة والجهات الفاعلة الدولية بالعودة إلى الأساسيات. إذ يجب أن يأخذ أي جهد لتعزيز الديمقراطية في الاعتبار تطلعات المواطنين إلى الكرامة الاقتصادية. تقول: إن مناشدة المفاهيم المجردة وحدها لن تكون مقنعة. إذ يتوق العرب إلى الحرية والعدالة. ولكن إذا لم توفر الديمقراطية الخبز أيضًا، فسوف يدعم العرب الأنظمة السياسية التي تفعل ذلك. حتى وإن كانت مستبدة.

أماني جمال
أماني جمال

هي أستاذة بجامعة برينستون في الولايات المتحدة الأمريكية. بالإضافة إلى كونها المؤسسة المشاركة والمحقِّقة الرئيسيّة لدى “الباروميتر العربي”. وقد نشرت العديد من الدراسات والكتب في أعرق المجلات الأكاديمية ودور النشر العالمي. وتعد من أبرز الباحثين في العلوم السياسية في قضايا المنطقة العربية.